الخميس , مارس 28 2024

“داحول” .. وصرخة اللون

                  قراءة في أعمال الفنان صفوان داحول

                 ******************

بقلم : ماجدة سيدهم 

أيها الغريب على اعتاب الحضارة ليكن صراخك أبيض أبيض ..أسود أسود ، وليكن النهار فيك مستقيما دونما  تداخل أو غيوم  كي نرى بوضوح قاماتنا بلا إنحناء أو اختصار ، أبيض أبيض ..أسود أسود  هو  الطريق المضيء في وضح العتمة المتخثرة    ..

هكذا المار هنا وعند متكأ داحول للرصد يتوقف القارئ كثيرا لقراءة  أناشيد الحكمة العريقة وهمس الشجن العذب في بنات ألوانه ، لون تلو التداخل المستقيم ، فلا تعبرالروح  مرافئ العيون ولا يغادر الوجد قداسة الآلهة  حتى تطرح التساؤلات نفسها بوضوح ، بينما كل الإجابات  حاضرة كذاكرة شرسة .. آشور ابنه التطلع الممتد  والإرتفاع  الأكثر زهوا لتفاصيل الرسوخ  دونما تطاول  حدث من قبل ، آشور أنثى الرقي المتكئة على أعمدة الشموخ وعذوبة المجد  ،هي هي الأمس واليوم وحتي إطلاق سراح أسرها المباغت من كتل البطش وثقل الخرافات، هذا ما حدث حين أُنتهك الجمال عنوة و أُطفئت الرؤية  بالمطاردة المبللة بالإبتذال ، هنا يطوف داحول بين ساحات التاريخ وحقول الخمر المعتق بالحضارة ويجذب أجواء الطعن في خاصرة الفكر  حيث  تحوم رايات التردي بلا هوادة تكسو الوهج بغبار التقزم  والتحطيم ..

يرصد داحول  بأوجاعه كل هذا الأسى المحتشد بالقسوة في صناديق  من صدأ وحدود من  خرس  (  حبس النساء  داخل أطر ضيقة ومحكمة أو الحاقهن  جبرا بمقاعد بلا إمتداد حيث صعوبة الحركة  وثقل التنفس وعدم القدرة على الانطلاق  والإبداع ، أيضا اصطفافهن كمنسحبات من المشهد مؤقتا أو تكورهن  الصعب على حنايا ماضيهن العظيم  ) فهن يمثلن  الحضارة الفتية التى لا تشيخ ولا تهرم  فظهرن كشابات أنيقات ، كأنه يرصد هنا جلال هذا التميزالحضاري الشاهق للأوطان والذي  بات الآن مصلوبا على قارعة الجهالة جراء فعلة الطغاة المدججون بالوشم والرصاص والتحريم من فرات عشتار وحتى نيل اخناتون والعاصي الجذاب  ، لكنه ..وياللروعة،  يصور هذه المرحلة البائسة  بكل تفرد ورقي ، رافضا الحاقها بملامح الإذلال أو الانكسار ،  فبدت النساء   جميعهن فارعات القامة ،مشدودات الظهر  لم يتخلين عن  ثقتهن  ووضوحهن  ( اللون الأبيض والأسود )، أو عن ثيابهن الأنيقة وشعورهن الحرة ، ففي متسع الأبيض والأسود  تحديا عظيما لكل المحاولات المضنية والرديئة  لوأد الثقافة  وكسر هيبة الجمال ومنارات الفكر وتراث الحكمة ، الأمر الذي دفع داحول أن يسحبهن  بعيدا عن المشهد المبتذل خشية  الإنزلاق   في هوة الشقاء الفكري المتسم بالضحالة والغلظة  ، وحرصا منه بعدم الدخول  في مواجهات لا تليق بتاريخ الحضارات  العظيمة  التي  لأوطانها  العريقة ، وكأنه يسمو بها وينأى  بعيدا عن كل الترهات ،  فثمة  فجوة هائلة ما بين الحضارة والبداوة ، تلك الأخيرة التى تمثل   تخريبا متقنا  للعقل واغتيالا تعيسا للفكر ومصادرة ضارية للإبداع  ( الرؤس  منكفئة  على الأكتاف ) حتى  في هذا الإنكفاء ما خلى عزوفها من فخامة الرقي والتحضر ،  بينما جائت العيون مشدودة بالوضوح ، واسعة  بشكلها التراثي الأقرب  إلى الفرعوني ،  وقد بدت غافلة حينا  كأنها تسهر حارسة على  وجدانها خشية المزيد من الإنتهاك  والإختطاف  القسري ، لذا  جاءت  النظرة  بما  لا يوحي   بالنعاس أو السبات  لكنه الصمت لهول ما حل بها من عدم التقدير وعدم الفهم  ، فما غابت  بصيرتها  وفطنتها لفهم المجريات  جميعها ، وهو مايجعلنا لا نحبذ فكرة اليأس رغم مسحة الحزن  المرشوشة على الملامح  ، لذا يعلن اللون أنه ليس وسيلة لمقاومة ومواجهة القبح بغير الإبتعاد  وقتا  أو العزوف عن النزال غير اللائق  وغير المتكافئ فكريا وحضاريا ..

 أيضا تلك  اللوحات التي بدا فيها  الجسد  مختنقا  لشدة الالتفاف حول ذاته نجد  الخطوط  كلها جاءت  بشكل دائري إنسيابي   وهو مايميزها بالمرونة والليونة   لتتلائم مع  لحظة  إنطلاقها الصارخة وعودتها للسيادة   مجددا  ، وذلك بكسرها   كل الأطر والأفق الضيق التي زجت بداخلها ، تلك الأطرالتى جاءت في خطوط مستقيمة وزوايا حادة  الإنغلاق ، وهو ما يميز هشاشتها وقابليتها للكسر بل وتحطيمها  في اللحظة المواتية للتحرر والخلاص ..

ويواصل داحول مقولته اللونية  أنه حتما ستنهض تلك المتسربلات بآساهن حين يكتمل الاحتشاد الآسر لقوى الروح ، وصوب الخلاص سيحطمن القيود بغتة ، تستقم الهامات  وتنطلق صياحات الغناء  والضرب على قيثارات الحضارة  بعنفوان مزامير  الإفتخار،  بينما تتهاوي كل تلك الصراعات  وذاك التخلف الخشبي المعيب   ليكون وقود ا  لحقبة في حجم الوصمة ..

هكذا يرتحل بنا  صفوان داحول في براعة  الألم يحاكي  الكون  بخطر اعتقال  التنوير وحجب  فلسفة الجمال ،  فيما يؤكد ثقته  أنه ليست لقوى  التوحش الظلامي قوة تبقى  فهي محض  خواء  لتظل الحضارات الإنسانية  ركيزة بناء وإفتخار الشعوب ..

شكرا  لك أيها الأبيض شكرا أيها الأسود .. شكرا داحول ..

 

شاهد أيضاً

الأقصر

مدفع رمضان بالأقصر.. ومرارة فقد هويتنا

كتب الاستاذ الطاهر على الحجاجى كان المدفع الذى أمامنا بالصورة من أقدم المدافع ويرجع تاريخه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.