السبت , أبريل 20 2024
واسيني الأعرج
الكاتب والروائى العالمى واسينى الأعرج

العرب وحرب المائة سنة .

بقلم/ واسيني الأعرج
لو قيل لي قبل سنوات قليلة إن المأساة السورية ستبلغ ما بلغته اليوم من أقاصي درجات العنف، وسيحصل فيها ما نراه ويهزنا في كل ساعة، لضحكت من خبل التصور، وصاحب هذا الرأي، وأظهرت له بالبرهان المشهود ضلالته وخطأه. فسوريا ليست بلداً عادياً، ولم تتكون البارحة كثمرة لتمزقات معاصرة، فهي تحمل إرثاً حضارياً وإنسانياً ثقيلاً، فقد أسهمت في تشكيل الحضارة الإسلامية وقادتها نحو مكاسب جمة كان أولها تكوين الدولة الأموية، كمؤسسات، وسك العملة وفتح المناخ الثقافي على المختلفين في الرأي.
نحتاج حقيقة إلى أن نعيد النظر بتعقل في كل اليقينيات التي بنينا عليها ثقافتنا وتصوراتنا. وندخل عقلية المحتمل لامتصاص الصدمات الأكبر التي تنتظرنا. مع البشر، لا شيء مستحيلاً، يمكنه أن يبلغ بسرعة أقاصي الأشياء في الجريمة والإبداع على حد سواء. من السهل القول إنّ الأنظمة وحدها هي من خلق هذا المناخ. فهذه النظرة جد اختزالية وان تحملت القسط الأكبر في تخلف بلدانها، بتحولها إلى دكتاتوريات لا تنهب فقط أموال شعوبها، ولكنها جعلت من الرداءة قانوناً وأصبح العقل ألد أعدائها، واستعارت كل وسائل الفتك وأبدعت من عندها أيضاً. لكن المسألة أكبر من ذلك كله.
لم يعد غريباً أن هناك رهاناً صهيونياً أمريكياً بأن لا تقوم دولة عربية نموذجية قادرة على تغيير الموازبن وتفكر بمنطق المصلحة المشتركة خارج الأيديولوجيات. النموذج إذا استقر أصبح معدياً بالمعنى الإيجابي، ولنا في أمريكا وأوروبا وآسيا نماذج حية. من هنا يمكننا أن نؤلف مجلدات عن داعش/ الدواعش. عندما نتوغل في أنفسنا عميقاً ببعض الشجاعة، لن تكون داعش إلا الصورة البشعة المتخيلة في الأعماق التي نرفض رؤيتها وهي مترسبة بقوة فينا ثمرة لسلسلة من التشكلات يلعب فيها الدين الضيق والهزائم المتراكمة الدور الحاسم. لا تقبل بالاختلاف في التأويل الديني ورؤيتها هي المتسيدة. تحارب الرأي الآخر وتعتبره حداً أو مروقاً وخروجاً عن الجماعة. تتحول إلى مؤسسة أخلاقية يمر كل شيء عبرها. لعبت دوراً محركاً في تفكك الدولة وحولتها إلى هلام تحكمه مافيات صغيرة تشكلت وتنظمت على مدار الحروب الأهلية العربية. هذه صورة عن منظمة داعش، فقد أصبحت جزءاً مهماً من المخيال الذي تأسس عليه نظام التفكير في المنطقة العربية والإسلامية باستثناء إسلام آسيا الذي سلك طريقاً اقتصادياً آخر جعل جزءه الآسيوي يندمج ضمن نموذج المنطقة.
تنظيم داعش ليس في النهاية إلا الوحش الذي كبر فينا، وكبّروه أيضاً بكل وسائل الاستلاب الحديثة. كيف قبل الغرب العلماني والحضاري والانساني بنشوء العدمية الإسلامية إذا كانت حقيقة أطروحته إنسانية؟ وكيف قبل بأن تنتهي الانتفاضة العربية في أحضان العدمية بدون سوابق وضامانات الدولة الحديثة؟ هل حربه اليوم ضد الدواعش صادقة؟ في ظل التواطؤات الخطيرة، تحول الدواعش إلى قنبلة موقوتة أدت وظيفتها على أحسن وجه. أرجعت العالم العربي قروناً إلى الوراء، وهو أصلاً في عز تخلفه، لتدخله في دائرة تخلف التخلف الذي لن يرفع رأسه من بركته الآسنة إلا في أفق لا أراه قريباً.
هي آلة التمزيق الحادة التي نزلت بعنف على الخرائط العربية فمزقتها شر تمزيق. ليست الخرائط التقليدية التي مزقت الأرض ولكن خرائط الروح التي أحرقت الدولة الوطنية وعوضتها بدولة الاثنيات والأعراق والطوائف، ورسمت أمامها الحدود الزئبقية، ودفعت بها إلى التقاتل الدائم.
داعش آلة خلقت لأداء وظيفة دقيقة لأن ترسيخ نموذج جديد بعد الطفرة النفطية في الخليج أو البلدان المغاربية، كان يمكن أن يغير الكثير في الملامح الاقتصادية للعالم العربي. الملامح الاقتصادية والحياتية والانفتاح الليبرالي كانت قد بدأت في الظهور. أي مشروع يحمله الدواعش للتقدم غير الجريمة المخطط لها سينمائياً للمزيد من الرعب والإدهاش وكبح فكرة التطور والتقدم، وتدمير الخيرات العربية، وتنشيط لوبيات السلاح الأوروأمريكية التي أصبحت تبيع أكثر من أي زمن مضى. مساحات التقاتل تغذي السوق كما يجب وتحافظ على وتيرة تجارة الأسلحة.
وأكثر من هذا، لقد خدم الدواعش اللوبي النفطي الذي أصبح متحكماً في كل شيء. فأنزلوا ثمن البرميل إلى حدود سعر التكلفة. وباعوا النفط بأقل من أربعين دولاراً للبرميل وفي بعض الأحيان وصل سعر البرميل النفطي إلى سعر التكلفة. كل هذا بفضل تنظيم داعش الذي منذ أن جاء، كان مثل ريح عاصفة كنست كل الوجه النير الذي كان يظهر عالماً عربياً في جهد واضح للخروج من ظلم الظرفية والاستعمارات التي أنهكته عبر التاريخ.
اليوم وإن تغيرت الأسماء، أصبح لكل بلد دواعشه التي جعلتها الحروب الامريكية الاوروبية تتسع. لإسرائيل دواعشها بأئمتها وقتلتها لابتذال الثورة الفلسطينية وثوارها. لأوروبا دواعشها المتعددون الذين أذلوا العربي في كل الأمكنة حتى أصبحت الطابور الخامس في تسويق صورة بدائية عن العربي والمسلم. وللعرب أيضا دواعشهم لخوض حروب التقتيل ضد بلدان عربية أخرى. العالم الذي كنا نعرفه لم يعد موجودا. ويقين الأشياء انتفى. وبعدها أصبح كل شيء مجازاً، بما في ذلك ابتذال الموت بحيث لم تعد روح العربي تعني الكثير. من العادي جداً أن يموت 300 عراقياً في تفجير واحد. لا حدث أن تباد قرى في اليمن الحزين. وأكثر من العادي ان يموت 700 سوري في أقل من أسبوع في حلب وحدها، وكأن الأمر لا يهم أحداً. لا ملحقات حقوق الإنسان تعمل باتجاه الخير، ولا الضمير الدولي، ولا القوى العظمى التي لا تتحرك إلا للحفاظ على مكاسبها الاقتصادية في حرب مجنونة. وأسوأ من هذا كله، ان الكل يركض لتسليح الكل والدفع من الخلف بهذه المجموعة او بتلك، تارة باسم التوازن، وتارة باسم الثورة، وأخرى باسم المقاومة.
وهم مستعدون حتى لاستعمال الكيمياوي فقط لضبط لعبة التحكم في مخرجات الحرب ونتائجها. فقد تعرضت مواقع الجيش السوري لهجوم من قبل إرهابيي داعش عند نقطة السيرتيل على الطريق بين اثريا ومفرق الرصافة بريف حلب، ادى لاخلاء القوات السورية لمواقعها وسقوط العديد من الأموات.
من منح السلاح الكيمياوي ومن موله؟ يمكن تتبع مسار السلاح للوصول إلى البائع والممول. ولكن من يقوم بذلك؟ لا أحد.
يبدو أن تدمير سوريا والعالم العربي، تتحكم فيه مسبقات يتم تصنيعها، وأن حرب المائة سنة قد بدأت حيث لا أفق إلاّ الخراب الكلّي والدمار الشامل.

شاهد أيضاً

ليلة أخرى مع الضفادع

في ضوء احداث فيلم الوصايا العشر بشأن خروج بني اسرائيل من مصر التى تتعلق بالضربات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.