الجمعة , مارس 29 2024
أ.د/ عبدالرازق مختار محمود

وزارة واحدة تكفي .

في الدول التي تعيش في مراحل البناء، وإعادة الانطلاق في عالم المستقبل، وخصوصا تلك الدول التي تعاني من العوز الاقتصادي، هذه الدول تلجأ راغبة، أو مرغمة إلى تقليص نفقاتها، وخصوصا تلك النفقات المتعلقة بأجهزتها الحكومية؛ لتصل إلى حدها الأدنى في بلادنا، ولن يتأتى ذلك مع هذا الكم المترهل من الوزارات، التي في كثير منها إرث عقيم، لزوم الأبهة، والمنظرة، والديكور، ولا طائل من وراء العديد منها، بل على العكس تماما: هي تسهم بشكل، أو بآخر في تعويق الأداء، ووضع العراقيل في سبيل الانطلاق.

وغير خاف علينا أن العديد من الوزارات لن يوثر فيها غياب الوزير، فهي تعمل بشكل طبيعي، وتلقائي من خلال دولاب عمل بيروقراطي عتيق، يمتلك من أدوات الدفع الذاتي، ما يجعله ينطلق بصورة أفضل بكثير في غياب الرئيس المباشر أملا في أن ينال البعض منصب الرئيس.

كما أن هذه البيروقراطية قادرة على خلق بيئة ملائمة، وفاعلة في حالة الاندماج، وهي مبدعة أيضا في حال الرغبة في تشبيك مصالحها؛ ولنضرب على ذلك مثالا حيويا، وهو مثال يرتبط بهوية الأمة، ورغبتها في إدارة المستقبل، وهو في ذات الوقت طوق نجاتها. المثال الحي هو عدة وزارات كلها تعمل بشكل منفرد، وربما في كثير من الأحيان تعمل بشكل متنافس، وفي بعض الأحيان بشكل متصارع، هذه الوزارات هي: وزارة التربية والتعليم – وزارة التعليم العالي – وزارة البحث العلمي – وزارة الثقافة، وهذه الوزارات مرة تندمج بعضها مع بعض ومرات تنفصل، فتارة تندمج التربية والتعليم مع التعليم العالي، وتارة تندمج وزارة التعليم العالي، مع البحث العلمي، ومرات عديدة يعملون بشكل منفصل.

وهذا الإرث يؤشر بداية إلى إمكانية الاندماج بعض النظر على تقييم التجارب السابقة، ويؤشر أيضا إلى أن هذا الاندماج وارد في مخيلة صاحب القرار، وفي حيز رؤيته لإدارة تلك الوزارات، وإذا كان ذلك كذلك؛ فإن هذا الاندماج، والتوحد يصبح اليوم من قبيل الضروريات للأسباب المالية والإدارية التي سيقت في صدر هذا المقال، وأيضا ربما يساعد هذا الاندماج بشكل أو بآخر في تحسين الأداء، وربما يسهم في سد العجز،

وتلبية بعض الاحتياجات التي تحول الظروف الاقتصادية الراهنة دون تلبيتها، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر. فإذا كانت وزارة التربية والتعليم تعاني من نقص في بعض المعلمين، فيمكن الإفادة من الأجهزة الإدارية في كل هذه الوزارات، وهي كثيرة، وبينها من يمتلك قدرات، ومؤهلات العمل في قاعات الدرس، والعكس يمكن أن يحدث؛ فالجهاز الإداري في وزارة التربية والتعليم به بعض الفائض، يمكن الإفادة منه في تدعيم الهيكل الإداري لوزارة الثقافة، وهى بحاجة إلى المزيد منه في ضوء هيكلتها وفي ضوء المتطلبات الجديدة من هذا القطاع، وأيضا لا مانع من الإفادة في هذا السياق من المكتبات الضخمة والثرية، وكذلك قصور الثقافة، والمسارح المنتشرة في كافة أنحاء الجمهورية، بما يدعم أهداف التربية والتعليم قبل الجامعي، والجامعي، وكذلك البحث العلمي.

ولا يخفي على أحد أن الخيال الخصب للقائد الملهم، والمبدع، وصاحب الرؤية، لا يعدم الأساليب، والآليات التي تجعل هكذا وزارة نموذجا يحتذي في بقية قطاعات إدارة الدولة لمؤسساتها، وهذا قد يسهم في تحفيض عدد الوزارات إلى النصف، وربما الثلث، وأعتقد حينها أن نفقات إدارة هذه الوزارات سوف تكون أقل، وكذلك الأداء بالتأكيد أفضل.

وإذا نظرنا إلى المسمى الذي يمكن أن يطلق على هذه الوزارة، ممكن أن يكون على سبيل المثال: ( وزارة العلم وتمكين المعرفة )، أو( وزارة التربية والتعليم وتمكين المعرفة) إلى غير ذلك من المسميات، التي يمكن أن تحيط بأهداف هكذا وزارة، والعلم هنا في هذا المسمى المقترح يقصد به: تعليما وتعلما وبحثا واكتشافا، وتمكين المعرفة يعني البحث عن آليات الإفادة من المعرفة، وتوظيفها، وتسويقها، ودعم المقترحات، والمشروعات، والاختراعات، والابتكارات، وتمهيد الطريق لها؛ لتجد في الواقع مكانا يمكن أن يضخ في الارتقاء بمقدرات الأمة، ورفع إمكاناتها.

وأخيرا فإن أمة وهي في طور البناء، وفي مرحلة العوز الاقتصادي، ينبغي أن تضرب مثلا في إدارة إمكاناتها بشكل يؤشر إلى أنها حريصة على تلك الإمكانات، وأن تبتعد هي ومن يعمل تحت لوائها بكل السبل عن كل أساليب الترف والبزخ، فمقاعد الطلاب، وتقنيات التعليم، ومصادر التعلم، وإعداد المعلمين، هي أهم بكثير في هذه الآونة من مصروفات أساطيل السيارات، وبدلات الانتقالات، ومتطلبات الدعاية والإعلان، والتطواف حول العالم في رحلات خارجية بلا عائد، فإذا أردنا فعلا أن نحدث تغييرا حقيقيا في الواقع، وفي المفاهيم؛ ينبغي أن نكون القدوة والأنموذج والنبراس الذي به يحتذي، ويهتدي الجميع.
أ.د/ عبدالرازق مختار محمود
أستاذ علم المناهج وطرائق التدريس بجامعة اسيوط

شاهد أيضاً

ليلة أخرى مع الضفادع

في ضوء احداث فيلم الوصايا العشر بشأن خروج بني اسرائيل من مصر التى تتعلق بالضربات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.