الجمعة , أبريل 19 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

القصر

مدحت موريس

التففنا جميعنا حوله فى سعادة…….وبكلماته الرقيقة العذبة استطاع أن يحصد قلوبنا ويزرع فيها أملاً جديداً، أشرقت ابتسامته الصافية فى سماء حياتنا فبدأنا نتحرك فى نشاط لأجله وأيضاُ لأجل أنفسنا.

أشار بيده اليُمنى نحو الخلاء قائلاً ” هنا سنشيد الدار الكبير والتى ستجمعنا كلنا تحت سقفها بالحب والوفاء…..أما ما حولها…

تلك الأراضى الممتدة على مرمى أبصاركم، فسوف نزرعها بكل الخيرات التى يمكننا بها الله لتوفر لنا الزاد ليس لنا فحسب بل لأبنائنا وأحفادنا من بعدنا.” كانت كلماته القوية بمثابة الوقود الذى حرك سواعد كل السامعين فنهضنا -جميعنا-

لنحقق الصورة التى استطاع أن يرسمها فى خيالنا، فرأينا الدار الفسيح قبل أن نرص حجراً واحداً على جداره، بل وشاهدنا الزرع الأخضر اليافع وقد علا عن الأرض دون أن نلقى بذرةً واحدة على الأرض الجدباء!!!.

كانت لكلماته فعل السحر الذى فجر الطاقات الكامنة لدينا، وكان هو بيننا يد بيد يبنى مع البنائين ويزرع مع الزارعين. ثم تمر الأيام وترتفع قامات المبنى الفسيح وان كان لم يتم الانتهاء منه بعد، وفى المقابل نمت الزروع وحان وقت الحصاد……ولم يحصد الزارعون ما تمنوه وما وعدهم به…لكن الرضا كان

هو الغالب فى النهاية عن قناعة الزارعين بأن البدايات دائماً لها تكلفتها التى تقلل من ربح الحصاد، ولعل الحصاد القادم يكون أفضل حالاً من حصاد العام. وينتهى حصاد ويأتى حصاد، وترتفع هامات الدار الذى لم يتم الانتهاء من بنائه ويُفاجأ الجميع بحاصدين جدد…أيادٍ جديدة….غريبة ومُريبة جاءت لتحصد….

وانتظر الزارعون نصيبهم فكان أقل من حصاد الماضى فتذمر البعض، وتأسى البعض…ثم صمت كل البعض!!!

فلم يكن أمامهم سوى الصمت بعدما أتوا الى تلك البقعة البعيدة -تاركين ما كانوا فيه- ليزرعوا الأرض ويشيدوا الدار. وانتظر الجميع حصاداً آخر لكنه كان مثل سابقيه أو أقل، لكن الدار أضحى لها وجهاً وشكلاً وارتفع سقفها أكثر فأكثر، وبدأ العمل بداخلها……قالوا عنها الكثير…بل نسجوا حولها أساطير….أعمدتها الرخامية والنقوش الزخرفية، لوحاتها الزيتية وثرياتها الذهبية. أما أنا فلم أرها….

لم أكن من فريق البنائين، لكننى رأيتها بخيالى جنة على الأرض. أصحيح أنها ستكون مأوانا الجديد؟ بالتأكيد …هكذا وعدنا الرجل من البداية وهو لم يخلف وعده قط، أما عن الحصاد ونصيبنا المتضائل منه فقد كان أمراً خارجاً عن ارادته، ولا أشك لحظة فى أن الحصاد القادم سيوافينا بالخير…..كل الخير.

وأتى موعد الحصاد الجديد -وليته ما أتى- فقد قل نصيبنا عما مضى لكننا لم نتذمر…لم نحزن بل ولم ننزعج على الإطلاق فقد علمنا أن الجزء الأكبر من ربح الحصاد قد تم توجيهه لإتمام بناء الدار…..الدار الحلم….والتى لم يعد من اللائق أن نسميها داراً….فهى فى الواقع قصر…..قصر شاهق بديع ومن الظلم وصفه بمجرد كلمات.

ويمر عام آخر اكتشفت قرب نهايته بعض الشعيرات البيضاء وقد تناثرت فوق رأسى….لم أهتم ..ولماذا أهتم فأنا أنتظر الحصاد، وعندما يأتى الحصاد سأصبغ تلك الشعيرات لتستحيل سواداً من جديد بعدها سأنسى أعواماً أمضيتها هنا فى تلك البقعة البعيدة عن موطنى.

وأتى حصاد جديد حسبت أنه الأخير عندما رأيت القصر الحلم وقد اكتمل وصار فى أبهى صورة، لم أهتم بالحصاد ونصيبى منه!! انصب كل اهتمامى على القصر واعتقدت أن موعد دخولى الى القصر قد حان….وأتى الرجل بابتسامته المعهودة الصافية يمنعنى من الدخول…..

حاولت أن أعترض..فرد اعتراضى بأنه وعدنى بربح الحصاد ولم يعدنى بالقصر….اشتد غضبى وذكرته بوعده لنا جميعاً بالدار الجميلة الدافئة التى ستجمع وتأوى الجميع فقال -وهو مازال مبتسماً- انه عند وعده وعندما يتم بناء الدار سيكون لنا نصيباً فيها أما ما شيدناه الآن فهو قصر والرجل لم يعدنا بقصر!!!!!!!!!!!!!!!!.

مضى وتركنى والعرق يتصبب على وجهى خجلاً، لم أعرف لخجلى معنى أهو خجل من غبائى أم تراه خجل لأجل من لا يخجل. جمعت حاجياتى وقد قررت الرحيل أما هو فلم يعترض فلم يعد بحاجة لى أو للآخرين، فالأرض قل خيرها ونضب بعد سنوات من زراعتها، وسيبقى القصر له وحده يتنعم فيه بمفرده…..وعدنا جميعاً -ماعداه- الى ديارنا وتركناه مع القصر الحلم والذى صار بالنسبة لنا القصر الوهم. انقطعت صلتنا بالمكان بعدما غادرناه خائبين…..

ومرت سنوات طوال احتفظت خلالها بسر بين ضلوعى…..فقد كنت بين حين وحين أذهب الى هناك….الى تلك البقعة البعيدة…..لم أكن أنتظر الحصاد….بل كنت أذهب لأشاهد القصر بين حين وآخر وكان هذا هو السر الذى لم يعرفه احد عنى……فقد أحببت القصر وتعلقت به ..

احببت القصر الذى لم اعش فيه يوماً واحداً بل ولم ادخله من الاساس……سنوات وسنوات ومازلت أذهب الى هناك فأرى القصر وارى ايضاٌ صاحب القصر وبينما انا اطوف حول اسوار القصر الخارجية كنت اراه يتجول داخل اسوار القصر ومضت الايام على نفس الحال حتى بعدما انحنى ظهرى وظهره..

كانت سعادتى أن اذهب و أشاهد القصر -الذى أحببته- من بعيد بين حين وحين ثم اعود الى الاهل والاصدقاء واقضى يومى بينهم أما هو فقد امضى بقية عمره داخل القصر ووجد سعادته فى ان يحيا سجيناً خلف اسواره بعدما هجره كل الاهل والاصدقاء.

شاهد أيضاً

ع أمل

دكتورة ماريان جرجس ينتهي شهر رمضان الكريم وتنتهي معه مارثون الدراما العربية ، وفى ظل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.