الجمعة , مارس 29 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

نهاية أخرى

أغلق الباب خلفه فى هدوء، تنفس بعمق يعكس ارتياحه وسلام نفسه بوصوله الى داره وانفراده بذاته مرة أخرى، فذاته هى الصديق الوحيد الذى أنس له ووثق به فى مشوار حياته الذى امتد قرابة الأربعين عاماً.

استلقى على فراشه يلتمس بعضاً من الراحة لجسده المنهك، كان يوماً عادياً من أيام العمل لا زيادة ولا نقصان لكن الضغوط العصبية التى يعيشها وتزداد يوماً بعد يوم تزيد العبء عليه وتنعكس على أجهزة جسده فتضطرب ويضطرب كل جسده معها فيعانى ما يعانيه وكأنه يعمل كعامل بناء يحمل المونة على كتفه ويصعد بها فوق السقالات طوال اليوم…بينما يحسده الناس على حقيقة كونه فناناً وأستاذاً يُدرس الفن بكلية الفنون التطبيقية.!!!

كان هذا هو رأى الطبيب الذى ذهب اليه، فبعدما أعيته الحيل، ذهب للطبيب مرغماً فرأيه فى الأطباء لا يختلف عن رأيه فى بقية الناس..أفاقون ومحتالون. يسأله الطبيب عن عمره..ويجيب بأنه تجاوز الأربعين بقليل….يسأل الطبيب عن وظيفته…فنان…رسام يصور لوحات زيتية بالاضافة لكونه أستاذاً بكلية الفنون التطبيقية، يعاود الطبيب سؤاله عن حالته الاجتماعية فيجيب بأنه أعزب وهنا يهز الطبيب رأسه فى تشكك وكأنه وضع يده على موطن الداء…

وبعد فحوصات ومجموعة من التحاليل الطبية التى تظهر أن الأمور كلها طبيعية يلجأ الطبيب الى الطريق الذى يحل كل رموز المعادلة وبكلمات مختصرة يفيده بأن كل شىء على خير ما يرام والأمر لا يتعدى كونه مجرد ضغوط نفسية فيتأكد هو من فشل الطبيب فى تشخيص الداء ويتأكد أيضاً أن الأطباء – شأنهم شأن الباقين- يلجأون وقت اللزوم الى النصب والاحتيال.

عشرون عاماً عاشها – بعد خصم سنوات الطفولة والمراهقة- ونظرته لمن حوله لم تتغير ولعلها تزداد سواداً يوماً بعد يوم…يتبدل الأصدقاء والجيران والطلبة وهيئة التدريس وحتى الأطباء الذين يعالجون حالته…لكن نظرته ورأيه فيهم كان الأمر الثابت الوحيد فى حياته.

قرر أن يكون الأمر مختلفاً هذه المرة، فبدأ من حيث انتهى الطبيب وفكر وحلل وخمن ثم توصل لأمر آمن به كحقيقة واقعة لا بد أن يواجهها وهى انعزاله التام عن العالم الذى يحيط به…أهى أزمة ثقة فى كل من يحيطون به ويتعامل معهم؟ لا يعرف السبب على وجه اليقين ولن يجهد نفسه فى البحث عن السبب فحرى

به أن يواجه تلك الحقيقة فاما أن يندمج فى هذا العالم أو أن تزداد المسافة اتساعاً بينهما. نهض من فراشه جلس أمام لوحة بيضاء وبدأ يضع خطوطاً لم يعرف لها معنى لكنه استمر، وضع فيها كل انفعالاته وأحاسيسه المتراكمة، ساعات طويلة أمضاها وبلمسات ريشته والوانه اتضحت معالم اللوحة شيئاً فشىء ولم يبق سوى رتوش….وقف يتأمل لوحته الوليدة …امرأة جميلة بملابس زاهية الألوان تقف فى ثقة وثبات بوجه باسم واضعة احدى قدميها على رأس وحش انبطح مهزوماً أمامها….وبدأ يضع الرتوش الأخيرة للوحته فتفنن فى ابراز جمال المرأة التى رآها تمثل نفسه وحياته التى يريدها، ثم اتجه الى الوحش المهزوم والذى يمثل له العالم أو المجتمع الذى يحيط به فيزيد من قبحه وقسوة قسمات وجهه وشراسته.

شعور بالراحة تملكه بعدما أفرغ طاقته فى التعبير المتقن لما يعيشه وما يريده ويتمناه، فى فراشه عاش لحظات من النشوة والشعور بعظمة الفنان الذى بداخله، وتذكر”بيجماليون” النحات فى احدى قصص الأساطير الأغريقية الذى نحت تمثالاً للمرأة كما تمناها وأبدع فى نحته فصار لامرأة غاية فى الجمال ثم البس التمثال ملابس غالية أنيقة فوجد أمامه أجمل امرأة فى الوجود وأسماها “جالاتيا” وأحبها بيجماليون حتى تمنى من الالهة أن تدب فيها الحياة وتُصيرها امرأة حقيقية، ثم بعد قرابين متعددة قدمها للآلهة دبت الحياة فى “جالاتيا” وتزوجها بيجماليون….وعلى نفس نهج بيجماليون وجد نفسه فجأة يطلب ويتوسل من الله أن تدب الحياة فى لوحته…

تلك المرأة الجميلة التى رسمها بريشته قد تكون عالمه الجديد الذى يحلم به ويبتعد من خلالها عن عالم آخر لا يريده، أغمض عينيه وازدادت توسلاته بأن تدب الحياة فى لوحته ثم……فجأة شعر بيد حانية تلمس وجهه …فتح عينيه، وجدها أمامه ….لوحته الجميلة…عالمه الجديد…امرأته الحبيبة ، أمسكت بيده، أنهضته من رقاده..شعر بشبابه يعود اليه تعانقا…تراقصا على موسيقى هادئة ناعمة لا يدرى من أين جاءت…

ثم فجأة تذكر نهاية قصة بيجماليون عندما رأت جالاتيا ما هى عليه من جمال أخذها الغرور وغلبتها الأنانية وهربت مع شاب وسيم وهجرت بيجماليون الذى هرع الى الآلهة يتوسلها أن تعيد جالاتيا الى حالتها الأولى كمجرد تمثال واستجابت الآلهة وعادت جلاتيا تمثالاً قام بيجماليون بتحطيمه. انتابه الرعب عندما تذكر نهاية أسطورة بيجماليون وتمنى أن تكون لقصته نهاية أخرى، فنظر الى عينى حبيبته التى يراقصها فوجد كل الحب..الحنان والأمان…ثم الرعب !!!!!الرعب؟؟؟

توقف عن الرقص متسائلاً عن تلك النظرة المرتعبة فى عينيها…لكنه لم يسألها بعدما سمع صوتاً خلفه يجسم رعباً هو أنكر وأقبح ما سمع لعمره، التفت خلفه فوجد الوحش الذى رسمه ووضع فيه كل ملامح الشر والقسوة وقد دبت فيه الحياة أيضاً. نهض من غفوته يتصبب عرقاً وقد اختفى الوحش وايضاً امرأته الجميلة، وبقيت اللوحة البديعة الذى رسمها، أما هو فابتسم ابتسامة ما بعد الفزع فقد ادرك انه قد يستطيع ان يخلق جزءاً من عالمه ولكنه – فى نفس الوقت عليه ان يواجه عالماً آخر لا يملك من امره شيئاً.أخيراً

شاهد أيضاً

الأقصر

مدفع رمضان بالأقصر.. ومرارة فقد هويتنا

كتب الاستاذ الطاهر على الحجاجى كان المدفع الذى أمامنا بالصورة من أقدم المدافع ويرجع تاريخه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.