الجمعة , مارس 29 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

الحادث

مدحت موريس

نظرت فى ساعتى للمرة العاشرة فبدا لى وكأن العقربان يعاندانى ويرفضان التحرك او لعلهما يتحركان ببطء شديد غير محسوس ، كنت اتعجل الوصول الى وطنى بعد رحلة عمل قصيرة، لم يكن سبب تعجلى فى العودة

هو اشتياقى المعتاد لوطنى ولمدينتى الجميلة لكن كان هناك سبب آخر يتعلق بالحادث المروع الذى تعرض له عزت صديق عمرى الذى علمت انه يرقد فى احدى المستشفيات بعد هذا الحادث الذى انقلبت فيه السيارة عدة مرات اثناء قيادته لها على الطريق السريع.

سبب آخر ضاق به صدرى وهو اننى اصبحت مضطراً لزيارة المستشفى وغير خاف على جميع من يعرفوننى مدى انقباضى من جو المستشفيات وكراهيتى ونفورى الشديدين لرائحة الادوية والعقاقير بالاضافة الى الاحباط النفسى الذى اعيشه بعد رؤيتى لحالة مريض او سماعى لانين متألم…

بمعنى آخر يعرف الجميع أن حضورى لسرادق عزاء هو أمر ايسر بكثير من زيارتى لمريض بمستشفى. الأمر الأن يبدو مختلفاً فالمصاب الراقد فى المستشفى هو احد رفقاء العمر المقربين فالأمر يتخطى كونه زيارة مجاملة.

تحاملت على نفسى قدر استطاعتى وذهبت لزيارة صديقى عزت وانا احمد الله على أن الحادثة قد مر عليها اسبوع وأغلب الظن أن تكون حالتة قد تحسنت ولوقليلاً. تباطأت خطواتى التى كانت مسرعة فى ردهة المستشفى وتثاقلت أكثر وانا على بعد امتار قليلة من غرفة عزت ، ثم…ثم استجمعت شجاعتى ووقفت على مدخل الغرفة فارتفعت خمسة رؤوس تنظر الى الوافد الجديد الذى هو انا .

كان هناك ثلاثة زوار لشريك عزت فى الغرفة بينما كان اثنان من اصدقاء عزت جالسين حوله والاربطة والضمادات تلتف حول تلاتة ارباع رأسه بما فيها عينه اليسرى وكان واضحاً أن جانبه الايسر قد ناله النصيب الاكبر من الحادث المروع حيث وضع ذراعه الايسر فى جبيرة بينما ساقه اليسرى كانت معلقة ومرفوعة داخل جبيرة جبس كبيرة . نهض احدهما ليصافحنى وكان يعرفنى بينما كان عزت يتساءل بصوت واهن عن الزائر..لكنه سرعان ما تعرف على صوتى ..

كانت لحظة مؤلمة نسيت فيها شعورى بالاختناق من الجو العام للمستشفى ولم اشعر الا بالمى وتعاطفى الشديدين مع الصديق المصاب الذى ذهب فى نوبة بكاء عالية جاءت على اثرها احدى الممرضات ثم ذهبت وغابت لدقائق قبل ان تعود وتكشف ذراع عزت وتحقنه بعقار فهمت انه مهدىء للاعصاب وعرفت وقتها ان اصابة عزت لم تكن اصابة جسدية فقط فمن الواضح ان الحادث قد نال من حالته النفسية والعصبية…

زاد على ذلك أن الممرضة وبناء على تعليمات الاطباء طلبت من جميع زواره عدم التطرق للحادث بأى حال من الاحوال. بالفعل حاولت فترة وجودى معه فى المستشفى ان اتكلم فى موضوعات خفيفة واستعدت معه ذكريات الطفولة والمراهقة والشباب حتى استطعت ان انتزع منه ابتسامة ظننت انها ستخرجه من دائرة الاكتئاب

لكن فجأة دخل طفل يبدو فى العاشرة من عمره بصحبة والديه لزيارة المريض الآخر شريك عزت فى الغرفة فانتبه عزت للطفل وتحرك فى الفراش ناسياً الاربطة وساقه المعلقة وخلت انه على وشك السقوط فتحركت بسرعة لاسنده ولم يلتفت عزت لى بل ظل على اهتمامه بالطفل ولفت ذلك نظر الام التى قالت لطفلها بلباقة وهى تشير نحو عزت ” مش تروح تسلم على عمو وتقول له سلامتك؟”

اتجه الطفل نحو عزت وهو يردد ما قالته له امه. خفق قلبى بعنف فالطفل فى نفس عمر ابن عزت الذى لقى مصرعه فى الحادث وتسارعت الافكار برأسى وانا ارى دموع صديقى تنهمر فى حزن عميق وهو يحاول ان يحتضن الطفل وهو يملأ يديه بقطع الشيكولاتة.

عاد الطفل لامه بينما نظر صديقى نحوى فى اسى فبادرته بقولى ” انها ارادة الله”…رد عزت ” لا…لا بل هى نتيجة حتمية لقيادتى المتهورة…تلك هى الحقيقة لقد قتلت طفلى…قتلت ابنى الوحيد” قلت له فى حزم بل هى ارادة الله انت نفسك كنت فى الحادث لكنك لم تمت….صمت صديقى ويبدو ان تأثير المهدىء قد بدأ يؤتى مفعوله.

فتعمدت ان احدثه عن رحلتى الاخيرة واننى سوف اسافر مرة اخرى وسأتغيب لأكثر من شهر انتبه هو لكلماتى وابتسم قائلاً “سأكون غادرت المستشفى…سأكون فى منزلى..اى انك لن تزورنى فى المستشفى مرة اخرى” قالها وهو يسخر من عدم تحملى لاجواء المستشفيات كما يعلم عنى.

غادرت الوطن ومكثت خمسة اسابيع لم انقطع فيها عن محادثة عزت تليفونياُ واو لمرة واحدة فى الاسبوع وسرنى ان حالته كانت تتحسن من اسبوع لآخر فبعد ازالة الجبس بدأ المشى قليلاً بمساعدة افراد التمريض ثم وحده بالعكاز وقد سرنى سرعة استجابته للعلاج ، اخبرنى ايضاً انه سيعود الى منزله وانه سيمكث فى منزله شهرين كأجازة مرضية بعدها يعود الى عمله وبالفعل عندما عدت الى الوطن كان عزت قد عاد الى منزله وفى طريقى من المطار الى منزلى تحدثت معه تليفونياً وكان صوته معبراً عن تجاوزه لاصاباته لكنه لم يستطع أن يخفى نبراته الحزينة لكن ما لفت نظرى هو أن كلامه كان يأتي كالهمس…

وكان يصمت كثيراً اثناء المكالمة وفهمت بالكاد انه ليس وحده وانه لا يريد أن يسمع أحد ما أسر لى به. اصابنى القلق قليلاً لكننى نسيت الأمر برمته الا انه اتصل بى فى ذات اليوم عدة مرات لكنى للأسف كنت مستغرقأ فى نوم عميق فلم اسمع رنين الهاتف.

فى اليوم التالى انتظرت حتى انتصف النهار لأعاود الحديث معى وما أن سمع صوتى حتى صرخ ” اين انت يا رجل ؟ كيف تتخلى عنى فى مثل هذه الظروف؟ ارتبكت وشعرت بالخجل لكنه استطرد قائلاً ” احتاج الى رأيك فى أمر هام أرجوك سأنتظرك فى أى وقت” . لم يكن أمامى سوى الاستجابة لطلبه وبالفعل وبعد أقل من ساعة كنت أدق باب منزله…انفتح الباب بسرعة ووجدته أمامى وكأنه كان ينتظرنى خلف الباب، دعانى للجلوس فى غرفة المعيشة وبدأ يتكلم وأنا أصغى اليه بكل حواسى. عاد عزت للهمس من جديد وكان بين كل جملة واخرى ينظر الى الردهة فى حذر شديد.

” الامر لا يخصنى بل يخص زوجتى كنت مشغولاً بحالتى الصحية ولم اتنبه لحالتها …هل تصدق ..لقد ايقظتنى قبل الفجر لتخبرنى أن درجة حرارة طفلنا مرتفعة ثم غابت وعادت بعد نصف ساعة لتبشرنى أن حرارته انخفضت بعدما وضعت كمادات على رأسه” نظرت اليه واجماً بينما هو يراقب الردهة المؤدية لغرف النوم قبل أن يستطرد لم يحدث هذا الأمر مرة واحدة بل عدة مرات وأخشى أن تتطور حالتها لما هو أكثر…هل تتصور أنها خلعت ملابس الحداد؟ بدأت فى تهدئته بعد أن انهمرت دموعه واكتفيت بقولى

” كل شىء سوف يكون على ما يرام فقط دعنى أفكر فى الأمر لأعطيك رأيى” شعرت بارتياحه لكلماتى ثم غادرت منزله على أمل أن تهدأ الامور وحدها….ثم بعد ثلاثة أيام اتصل عزت بى وكان يجهش بالبكاء فتوجهت الى منزله وأنا احدثه طول الطريق واحاول تهدأته.

ما أن وصلت الى منزله حتى وجدته يهاجمنى بشدة لعدم تدخلى واخبرنى كيف ساءت حالة زوجته التى تعد طعام الافطار لطفلها قبل أن يذهب الى المدرسة وكيف أنها تنتظر عودته فى شرفة المنزل كل يوم بل انها صارت تغيب داخل غرفة الطفل لساعات طويلة لمساعدته فى مذاكرة دروسه. ثم دخل فى نوبة بكاء مرة اخرى وهو يؤنب نفسه ” انا الذى قتلت طفلى وانا الذى اوصلتها لهذه الحالة” امسكت بيديه محاولاً اسكاته وانا لا اجد كلمات اقولها.

قلت له ” صدقنى الأمر ليس بيدى أنا لا استطيع أن افعل شيئاً ” نظر نحوى وقد بدأ يهدأ قليلاً” هل تعتقد أن الامر يحتاج لطبيب نفسى؟” كانت تلك الجملة هى طوق النجاة بالنسبة لى فأجبته بسرعة ” بالتأكيد نحن نحتاج الى طبيب نفسى متخصص” أمسك عزت كتفى بكلتا يديه وكان يهزنى بقوة وهو يرجونى أن ابحث عن طبيب نفسى ماهر.

ووعدته بذلك ثم قال لى قبل أن اغادر منزله ” بعد كل ما رأيته من زوجتى صعب على نفسى أن اصدمها بحقيقة أن طفلنا قد مات فى حادث السيارة”….غادرت المنزل وجملته الأخيرة ترن فى أذنى ثم بصوت متحشرج وجدت نفسى اردد ” وانا ايضاً يا صديقى صعب على نفسى أن اصدمك بحقيقة ان زوجتك قد ماتت فى نفس الحادث.”

شاهد أيضاً

يتساءل الجهلاء : أليس المحجبات مثل الراهبات؟

إسماعيل حسني الراهبة إنسانة ميتة، صلوا عليها صلاة الميت يوم رهبنتها رمزاً لمغادرتها العالم المادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.