السبت , أبريل 20 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

سر المدينة الفاضلة

مدحت موريس

نظرت اليه ساخراً غير مصدقاً لكلامه ،أما هو فازداد اصراراً على صدق كل كلمة من كلماته – ولكى يبرهن على حقيقة ما يقول – أصر على أن يصطحبنى الى هناك…الى المدينة التى حكى عنها بابهار وانبهار…المدينة الفاضلة أو كما أسماها وتمناها أفلاطون يوماً… لم أرفض دعوته فلم يكن لدى ما أفعله فى عطلة نهاية الأسبوع لكنى أيضاً أفهمته بأن قبولى لدعوته بزيارة مدينته الفاضلة ليس معناه قبولى للفكرة ذاتها وأعنى فكرة وجود مدينة فاضلة على وجه الأرض…لم يرد على كلامى وان لم يستطع أن يمنع علامات الاستياء التى بدت على وجهه وهو يواعدنى بلقائه بعد ساعة لنذهب الى هناك …..حيث توجد مدينته الفاضلة!!!!!. فى الموعد كنت هناك وكان هو فى انتطارى متحمساً وكان على أن أُبدى قدراً من الحماس إرضاء له أو إشفاقاً عليه. استقلينا الحافلة التى لفت نظرى أنها كانت شبه خالية من الركاب فقلت له مداعباً يبدو أن زوار مدينتك الفاضلة قليلون أو ان سكانها لا يخرجون منها أو لعلهم يخرجون ولا يعودون اليها ..وأعجبتنى النكتة فارتفع صوتى بضحك لم يوقفه سوى نظرته الحادة اللائمة والتى لم أرها فى عينيه من قبل…وأدركت سخافتى وشعرت أننى جرحته فبدأت أغير مجرى الحديث بأن سألته دون أن أنظر اليه “لا شك أن سكان هذه المدينة من طبقة اجتماعية واحدة وأقصد أن الجميع متساوون والا نشأت بينهم مشاكل ناتجة عن تلك الفوارق….يعنى بالتأكيد لا يوجد فيها غنى وفقير.” ابتسم وأجاب فى هدوء ” انها مدينة مثلها مثل سائر المدن فيها الغنى والفقير وفيها أيضاً اللص والشريف” ثم أستدرك لكن اللصوص لا يستطيعون العيش فيها طويلاً…قلت مقاطعاً تقصد أنهم يطردون اللصوص والأشرار من المدينة؟ أجابنى بسؤال ” هل سمعت بالنظرية التى تقول ان العُملة الرديئة تطرد العُملة الجيدة من السوق؟ ..ان السبب الرئيسى فى ذلك هو تقبل الناس لوجود عملة رديئة واقبالهم عليها هو بمثابة تشجيع لها وترسيخ لوجودها وفى نفس الوقت هو بوار للعملة الجيدة والتى تنعدم قيمتها بمرور الوقت حتى تندثر فى النهاية ولا يعود لها وجود . أما لو أقبل الناس على العملة الجيدة لانعكست النظرية وصارت ” العُملة الجيدة تطرد العملة الرديئة من السوق” سألته ” وهل يُطبق سكان المدينة الفاضلة النظرية العكسية؟ أجاب فى ثقة….بكل تأكيد…لهذا لم تعد للعملة الرديئة مكاناً فى المدينة الفاضلة ولم يجد اللصوص والأشرار راحتهم فى المدينة الفاضلة……عدت أسأل من جديد وقد بدأ الأمر يثير اهتمامى بالفعل ” وهل تلك المدينة صارت فاضلة لأنه لا يعيش فيها أشرار؟ أم أنها مدينة فاضلة منذ البدء ولا يحتمل الأشرار العيش فيها أو المجيء اليها؟ نظر الى مستفهماً ولم أستطع أن أوضح سؤالى بعدما تشوشت أفكارى لقرب اقتناعى بوجود تلك المدينة!!!! سألته ثانياً ونحن نتأهب للنزول ” ما قصدته بسؤالى هل نقت المدينة نفسها فصارت مدينة فاضلة؟ أم أنها نقية منذ نشأت؟” ابتسم رفيقى قائلاً ” أفضل أن تكتشف هذا بنفسك”. نزلنا من الحافلة وكان الوقت قبل الغروب بساعتين مما أتاح لنا حرية التجول قبل هبوط الظلام. مدينة كسائر المدن التى نعرفها شوارع ضيقة وأخرى واسعة…مبانى شاهقة ومنازل أقل مستوى ثم أيضاً بيوت صغيرة رديئة….سيارات فارهة وأخرى عتيقة تسير بالكاد…أما شعب المدينة فلم أجده يختلف عن كل البشر الذين رأيتهم على مدى سنوات عمرى….بأشكالهم وملابسهم التى تباينت باختلاف قدراتهم المالية. الخلاصة أننى لم أجد ما أبحث عنه ولم أجد شيئاً مختلفاً….نظرت الى رفيقى فى غيظ وأنا الذى كدت أن أقتنع بنظريته…أخبرنى ما الفرق بين هذه المدينة وأى مدينة أخرى؟ لكنه أقنعنى ولا أدرى كيف بالانتظار والتروى.. فى المساء ذهبت مع رفيقى لزيارة أحد أثرياء المدينة الذى أكرم ضيافتنا وبعد عشاء شهى طلب منا مشاركته تقديم صلاة شكر لله فى نهاية اليوم ووقفنا – ثلاثتنا – وكنت قريب منه وسمعت كلماته النابعة من أعماقه بصوت خفيض حتى أننى أرهفت أذنى مسترقاً سماعه “أشكرك يا الهى على مال وهبتنى اياه، على جاه منحتنى بين أهلى ورفاقى، على تجارة ناجحة تغنينى وترفع شأنى بين الناس، على قصر شيدته لأجلى وأجل أبنائى نعيش فيه آمنين، على صحة موفورة تعيننى على شقاء الحياة” غادرنا قصر الرجل ورفيقى يرقبنى ويرصد رد فعلى…فهمت هذا وقلت له ” الأمر لا يعدو كونه شخص تقى يعرف الله ويخشاه لكنه لا يعنى أن هذه المدينة هى المدينة الفاضلة” ابتسم رفيقى ولم يرد. ومر الليل هادئاً، فى اليوم التالى بدا كل شىء عادياً مثل اليوم السابق حتى أتى المساء فقال صديقى “بالأمس قمنا بزيارة أحد الأثرياء والذى هو نموذج لكل أثرياء المدينة، الآن سنذهب لزيارة أخرى لأحد الفقراء والذى هو نموذج لكل فقراء المدينة” وذهبنا الى الرجل فى بيته الذى هو أقرب الى الكوخ، وأكرم الرجل ضيافتنا وقدم لنا ما استطاع من عشاء…ثم ابتسم داعياً ايانا مشاركته الصلاة والشكر فى نهاية اليوم، ووقفنا – ثلاثتنا- وكنت قريب منه وسمعت كلمات نابعة من قلب منسحق ودون أن أدرى أرهفت السمع لكلماته ” أشكرك يا الهى لأنك لم تسمح بجوعى، أشكرك لأنك لم تضربنى بمرض فى جسدى أو روحى، أشكرك لأنك سترت على وعلى أبنائى وأوجدت لنا هذا البيت لنعيش فيه، لأنك وهبتنى قوت يومى، لأنك منحتنى ذرية صالحة موفورة الصحة والعافية”…كان علينا أن نلحق بالحافلة التى ستعود بنا الى مدينتنا …بعدما صعدنا وجلسنا نظرت الى صديقى ..عذراً يا صديقى تقولون انها المدينة الفاضلة وتريدوننى أبحث من سر كونها مدينة فاضلة…حسناً انها ليست بالمدينة الفاضلة….بل الفضيلة – كل الفضيلة – لسكان المدينة فالمدينة الفاضلة الحقيقية ليس لها أرض أو مكان و ايضا لا يلزمها زمان..فان شئت فتش عنها فقط فى أعماق الانسان.

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

لوبي باراباس الجدد ..!

لماذا لم يفكر هؤلاء الاشاوسه في نشر فيديوهات للأسقف مار ماري عمانوئيل ضد المثلية والبابا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.