الخميس , مارس 28 2024
مختار محمود

تحت التهديد حيًا وميتًا

مختار محمود

ما أصعب أن يبقى الإنسان قيد التهديد حيًا وميتًا. هذه مفارقة بائسة وأليمة وصادمة لو كنتم تشعرون. فوضى هدم المقابر أمر مزعج ومحزن لكثير من المصريين، بعيدًا عن أهل النفاق والتطبيل والتدليس وتلبيس الحق بالباطل. ليس هناك أسوأ من أن يبغلك أحدُهم بوجهٍ كالحٍ وقلب بارد بصدور قرار عشوائي بهدم مدفن أهلك الراحلين وإلزامك بالبحث فورًا عن بديل؛ لتنقل إليه ما تبقى من رفاتهم.

محافظة القاهرة أصدرت مؤخرًا قرار بإزالة 2000 مدفن.

القرار قد تتبعه قرارات أخرى مشابهة، سواء في القاهرة أو غيرها من المحافظات.

السلطات المختصة صمَّت-كالعادة- آذانها عن كل الاستغاثات المطالبة بالبحث عن حلول أخرى بعيدًا عن نبش القبور. تجاهُل طلبات الشعب، مهما كانت وجاهتها-

آفة حكومية بغيضة مذمومة. من المؤكد.. أن المدافن المُزالة لا تخص أيًا من أصحاب الأمر والنهي وصُنَّاع القرارات الغاشمة.

الفضاء الألكتروني شهد في الأسابيع الأخيرة مظاهرات غضب ضد قرار محافظ القاهرة، ولكن لا حياة ولا حياء لمن تنادي.

هناك جانب آخر مظلم في هذه القضية يتلخص في التجاهل الإعلامي من ناحية، وتطويع الفتاوى الدينية من ناحية ثانية. المؤسسات الدينية الرسمية لا تزال تطأطيء رأسها وتحتي ظهرها وتؤمَر فتُطاع، وتلك وأيم الله لإحدى الكُبَر. هذه المؤسسات فقدت أعز ما تملك لدى المواطنين؛ فلم يعد القائمون عليها يختلفون عن الشيخ مبروك “حسن البارودي” في فيلم “الزوجة الثانية” الذي كان يردد طوال الفيلم: “وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”.

صانع القرار لا يضع نفسه أبدًا موضع المواطن العادي، ويتعامل معه من برج عاجيٍّ وينظر إليه من علٍ، ومن ثمَّ لا تأخذه به رحمة ولا شفقة.

في الحياة أيضًا.. يبقى المواطن مهددًا بهدم مسكنه وتشريده؛ ربما لأسباب غير وجيهة، كما فعل محافظ الجيزة عندما كان مستجدًا، حيث تقمص شخصية “أبو الهدد” في فيلم “الراقصة والطبال”، أو لأسباب أخرى؛ كما يحدث مع المقابر حاليًا؛ من أجل تشييد الكباري والأنفاق، وأسباب اخرى لا تعلمونها، الله يعلمها.

صدمة هدم المنزل مثل إزالة المدفن مروعة، وتشعر المواطن بالغربة القاتلة الموحشة وقيلة الحيلة المؤلمة؛ ولا يقلل من تأثيرهما التعويض المادي الهزيل.

رئيس لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب، وهو رجل ليس مستقلاً أو حزبيًا، أكد أن كثيرًا من تلك الكباري والأنفاق ثبت عدم جدواها، وبعضها تم على دراسات عشوائية، وأهميته الاقتصادية معدومة! أنتَ لستَ مهددًا في مسكنك ومأواك فحسب، ولكنك أيضًا يمكن أن تفقد عملك في لحظة غادرة ولسبب لا يخطر لك على بال، فتتحول من صاحب عمل أو وظيفة إلى متعطل عاجز عن تدبير الحد الأدنى من احتياجات أسرتك، ومن ثمَّ فسوف تفقد استقرارك النفسي والأسري إلى الأبد، تمهيدًا للخروج من الحياة طوعًا أو كرهًا، ولن تجد من يمد لك يد العون، أو من يحنو على صغارك.

ومهما كنت مستورًا ميسورًا فإنك سوف تفقد مالك بشكل أو بآخر. إن لم يتم استنزافك عبر موجات الغلاء المتلاطمة وضرباته الموجعة وفواتير البنزين والغاز والكهرباء الصادمة، فإنك قد تفقده في أية مغامرة اقتصادية أو سياسية طائشة.. ولن يعود. حريتك أيضًا تبقى دائمًا وأبدًا على المحك، وقد تنتزع منك في أية لحظة وعلى حين غفلة؛ والأسباب كثيرة ومتعددة؛ لتموت حزنًا وكمدًا، وبعد دفن جسدك المنهك والمثخن بالأوجاع، فإنك لن تخلد إلى الراحة الأبدية كما تظن، ولكن بعد عام أو أدنى أو أكثر..فإن ورثتك سوف يتلقون إنذارًا بإزالة قبرك لإنشاء كوبري أو نفق جديد.

شاهد أيضاً

يتساءل الجهلاء : أليس المحجبات مثل الراهبات؟

إسماعيل حسني الراهبة إنسانة ميتة، صلوا عليها صلاة الميت يوم رهبنتها رمزاً لمغادرتها العالم المادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.