الجمعة , أبريل 26 2024
الدكتور عاطف معتمد

قهوة على الريحة !

أمام جامعة القاهرة يوجد حي صغير خطير اسمه بين السرايات..إن أردت أن تمسك بأهم جناة تدهور التعليم في هذه الجامعة فستجدهم هناك..على مرأى ومسمع من كل السلطات القانونية والتنفيذية.

هنا يتحول العلم إلى برشامة للغيبوبة، وتصاب المناهج بمسخ هجين، ويجد الفاسدون ضالتهم في إعداد الأبحاث ورسائل الماجستير والدكتوراه.

لكن جغرافية التناقض والتقابل في مصر تبهرك دوما، فخلف الصفوف الأولى لهذا الحي يمكنك أن تجد روح شوارع بسيطة هادئة بعيدا عن أحبار الطباعة ورائحة الوجبات الطلابية السريعة.

أكثر تلك الأماكن قربا لقلبي زقاق خلفي بين شارع المرور والمركز القومي للبحوث، وهناك أتردد على مقهى “البرنس”، عادة قبيل المحاضرة الصباحية الأولى من يوم الثلاثاء.

ما إن أجلس حتى يبادرني رجب القهوجي – الذي يعرف أنني سأطلب “قهوة ع الريحة” – بسؤاله المعتاد: “تؤمرني بإيه يا كبير! ؟”ورغم أنني أعرف أن رجب سيقول نفس العبارة لجلال العجلاتي، وحسن موظف الضرائب، وأمجد (باشا) أمين الشرطة إلا أنني انتظر منه في كل ثلاثاء النفاق المريح لعبارة “تؤمرني بإيه ياكبير” متغافلا عن منحها لغيري.

قليلا ما أسأل نفسي: ألا أعرف أن رجب بيَّاع كلام؟ ونصَّاب محبة؟! هل أحتاج إلى كلامه الواهب لسلطة مؤقتة مزيفة لا تتجاوز نصبة الشاي وحجارة المعسل ومقاعد الخيزران!؟ تنتهي محاضرات ثلاثاء هذا الأسبوع فأذهب مساء إلى مسجد شهير في حي الدراسة لأداء واجب العزاء في أستاذ كبير في الجامعة، أختار مكانا مجهولا في زاوية يزهدها الجميع، أتصنع الورع محاولا أن يكون حضوري تذكرة لنفسي بالموت لا مجاملة لأسرة الراحل.

تفشل كل محاولاتي لاستلهام الورع والتقوى، إذ لم اتخلص بعد من تلك العادة اللعينة التي ترافقني حين أمضي في مراقبة وجوه الناس وطقوس العزاء، تلك الطقوس التي تحولت من مأتم وسواد وحزن وعبرة إلى ستائر حمراء وكراسي قطيفة زرقاء كما في أفراح الأحياء الشعبية.

ماذا دهاني؟ لم أعد أقدس الآيات التي تتلى، فصوت قارئ القرآن صار مرعبا منذ أن تم الاستعانة بمكبرات صوت “دي جي”، التي تحول لك القرآن إلى صفارات قطار وشخاليل مولد شعبي.

في أضواء العزاء المبهرة التي تعمي الأبصار (والقلوب) ينصرف فجاة انتباه المعزين إلى وصول زميلنا في الجامعة الدكتور إيهاب زاهي الذي اختير قبل فترة قصيرة وزيرا.

تفسح له أماكن كثيرة ليمنح شرفا وزاريا للمكان، يقف إيهاب ثانيتين كعادته قبل أن يتخذ قرارا يحدد فيه أين سيجلس، يلمح الزاوية المهملة فيأتي إليها ويجلس بجواري.

لا يحترم الناس رغبته في احترام العزاء، فيأتون إليه بهمسات وتزلفات ضاربين بقارئ القرآن الكريم عرض الحائط. أسمح لنفسي – بما أن إيهاب هو الذي جاء إلى جواري – بأن أستمع الى أغلب ما يقولون، ثم أعود فاتمتم في نفسي “استغفر الله العظيم”.

كان كل شىء قابلا للاحتمال بدرجة أو بأخرى، إلى أن جاء فجأة الدكتور “منتهى نوار” وهمس في الأذن اليسرى للسيد الوزير “لا أريد شيئا… فقط أود أن أؤكد لك أنك من يومك كبير وابن كبير، ولابد أن تعرف أنني في كل مكان أقول لمن حولي إنك أعظم من أن أنجبت مصر .. لم يأت لهذه الوزارة مثلك في تاريخ البلاد …ربنا يخليك لمصر ياكبير”.

جاء نادل العزاء منحنيا أمام إيهاب فخلته رجب القهوجي لكن في هندام نظيف وقميص أبيض تعلوه ببيونة سوداء، سأل النادل معالي الوزير عما يختار فأجابه:

“قهوة ع الريحة”.

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

الضابط شفتيه، فطين

ماجد سوس تفاح من ذهب في مصوغ من فضة، كلمة مقولة في محلها. تلك المقولة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.