الخميس , مارس 28 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

كأس الأيس كريم

مدحت موريس 

يتحرك العاملون فى الكافى شوب بسرعة ، الحيوية تدب فى ارجاء المكان رغم اننا مازلنا لم نجتاز وقت الظهيرة بعد، لكنه يوم الخميس اليوم الذى ينتظره الجميع بدءاً من مالك الكوفى شوب الى العاملين بالادارة ونهاية بطاقم الخدمة سواء الخدمة الخارجية او خدمة المطبخ.

وتزداد اهمية يوم الخميس فى فصلى الخريف والشتاء فالطقس الحار فى الربيع والصيف وهروب الناس من منازلهم يرفع من ايراد الكوفى شوب ونسمع الكلمة الساحرة فى معجم السياحة الفندقية…”فول كومبليه” ا

ما بالنسبة لنا نحن العاملين فلا نشعر بمتاعب الوقوف الدائم والحركة الدائبة حيث ان التيبس او البقشيش يرتفع بمعدل كبير بحيث ان نصيب الفرد منه احياناً يتجاوز ما نتقاضاه كراتب.

اما الخريف والشتاء فكثيراً ما تمضى ايام الاسبوع خالية الوفاض ويمضى اليوم رتيباً ويكاد يكون الجهد الذى نبذله فيها لا يتعدى طرقعة اصابعنا او مصمصة الشفاه حزناً على ليالى الصيف الدسمة. لهذا كان يوم الخميس هو اجمل ايام الخريف والشتاء فحتى مع برودة الطقس او نزيف الامطار يعج المكان بالحركة لا سيما بتوافد الزبائن المعتادين الذين لا يشعرون بالراحة والحرية الا فى هذا المكان. وجوه العاملين تبدأ فى الابتسام والتفاؤل مع نهاية يوم الاربعاء

وفى صباح الخميس يكون المحل مزداناً بتلك الوجوه المتفائلة بل وحتى الزبائن انفسهم الذين يأتون احياناً وسط الاسبوع الا ان طلتهم على الكوفى شوب يوم الخميس لها مذاق مختلف فيأتون بالضحك والصخب وينادون علينا باسمائنا، وبديهى انهم يعرفون اسماءنا ونحن نعرف ايضاً اسماءهم بل والطاولة التى يفضلون الجلوس عليها وايضاً نعرف مشاريبهم المفضلة وغنى عن الذكر اننا نعرف ايضاً السخى منهم والبخيل لكن الخلاصة ان تيبس يوم الخميس بحصيلته الدسمة له مذاق مختلف. بدأت استعداداتنا لليوم المرتقب الذى سيعوض ايام الاسبوع الزاهدة، وبدأت البشاير بوصول مازن وشلته…الباشمهندس مازن هو طالب بالسنة النهائية بكلية الهندسة ويرتاد الكوفى شوب منذ سنوات وكالعادة يأتى بشلته من شباب وفتيات من زملاء الجامعة فى حوالى الرابعة بعد الظهر

ويغادرون فى السابعة ثم يعود مازن فى حوالى التاسعة والنصف مع شلة اخرى من الشباب اظنهم ابناء الحى حيث يقضون سهرتهم حتى الساعات الاولى من الفجر. والحقيقة ان مازن وصحبته سواء من شباب الجامعة او من شباب الحى ينطبق عليهم القول بانهم شباب يفتحوا النفس، فهم منتظمون فى دراستهم بالاضافة الى احترامهم بعضهم لبعض وايضاً احترامهم للآخرين وقليلاً ما يرتفع صوتهم فى المكان على الرغم من كثرة عددهم. ثم هناك عبير التى ستأتى بعد قليل ومعها بنت خالتها وصديقاتها وهن دائمات الحضور كل خميس والطريف اننى لم اشهد عبير يوماً بصحبة شاب بل انها وصديقاتها لم يجالسن شباب على مدى العام الذى بدأن فيه ارتياد الكافى شوب ولا توجد فى اصابعها او اصابعهن دبلة خطوبة او زواج. كان هذا يثير انتباهنا كعاملين

ولكننا فى جميع الاحوال نحترم خصوصيات رواد المكان ولا نسمح لانفسنا ان نتطفل لمعرفة ما لا يتحدث به رواد المكان معنا وما يتحدثون معنا فيه – ان حدث – فلم ولن نبوح به لاحد وهذه طبيعة المكان المحترم الذى يجذب زبائن محترمين فالكوفى شوب يتمتع بسمعة طيبة علاوة على ان وجود افراد امن بصفة مستمرة منع الشباب المتسكعين من التواجد فى المكان. الطقس بارد فى الخارج ومع حركة باب الدخول تتجه اعيننا نحوه لتترقب الضيف الجديد الذى نعرفه على الفور ونعرف كم سيترك لنا فى نهاية سهرته…لينتعش صندوق التيبس وتنتعش معه جيوبنا، يقترب المكان من العبارة المفضلة لدينا…فول كومبليه لم يعد هناك سوى طاولتين خاليتين….والثالثة فى الطريق فالاستاذ صفوت سيغادر بعد قليل فهو معتاد على الذهاب الى السينما كل خميس لهذا يغادر قبل التاسعة

وهو ايضاً رجل سخى ولكن من يراه وهو يراجع شيك الحساب لا يتخيل انه سيترك لنا بقشيشاً سخياً فهو يراجع الحساب بالتفصيل ثم يخرج الالة الحاسبة ليحسب نسبة الخدمة المضافة على الحساب ثم اخيراً يفك تكشيرة وجهه ويضع النقود فى الحافظة لكنه لا يتركها على الطاولة كالآخرين بل ينادى على اى منا ليسلمه الحافظة فى يده…فطبيعة عمله فى البنوك جعلت منه شخصية متحفظة على الاقل فى النواحى المالية. ينفتح الباب ويظهر وجه رأيناه من قبل لكنه ليس من رواد المكان ولم نعتقد انه سيكون يوماً من مرتاديه…هذا الفتى..اتذكره؟ سألنى احد الزملاء اجبته دون ان انظر اليه فعيناى تسير ببطء مع ذلك الفتى الذى دلف الى المكان…تذكرته من حركته المرتبكة وعينيه اللتين تصوران المكان والجالسين والواقفين فيه بنظرات خاطفة غير مركزة. هو فتى بصورته التى اراها لا يرقى لان يكون احد زبائن الكوفى شوب…

لكننا لا نملك ان نطلب منه مغادرة المكان، نظرت الى فرد الامن الذى بحسه الامنى كان يراقبه ويراقب خطواته منذ دخوله. اما انا فقد تذكرت الفتى الذى دخل الى المكان فى اواخر الصيف الماضى وسألنى مرتبكاً عن سعر الايس كريم بقطع الشيكولا والمكسرات فرددت عليه بلهجة مقتضبة…27 جنيهاً…

فازداد ارتباكه وسأل مجدداً طيب لو من غير قطع الشيكولا والمكسرات والزبيب يبقى بكام؟ اجبته وقد زاد تأففى بصورة واضحة 25 جنيهاً…تخطى ارتباكه حدود كلامه فتلعثم وهو يسأل ان كان هذا السعر شاملاً الخدمة فهززت رأسى بالايجاب دون ان انطق حرفاً واحداً….كان هذا منذ شهور…

وها هو الآن يدخل الكوفى شوب بخطوات مرتبكة فيرتطم بالمقاعد والطاولات قبل ان يشير له احدنا الى احدى الطاولات الخالية فى ركن بعيد اقرب الى دورة المياة لكنه اراد الجلوس على طاولة اخرى فى المنتصف فاسرعت انا اليه واخبرته ان الطاولة محجوزة وفى الحقيقة لم تكن لكنى اردت ان ابعده عن التواجد فى منتصف الكافى شوب علاوة على ان الطاولة معدة لثمانية افراد وليست لفرد او فردين لكنه فى اصرار اتجه الى الطاولة الثالثة الخالية بجوار النافذة وجلس فاتجهت اليه دون ان يشير لى وكان هدفى ان انهى جلسته بالكوفى شوب فى اقصر وقت وكما توقعت فقد طلب كأس الايس كريم الذى اسال لعابه لعدة اشهر لكنه فى براءة او سذاجة ممزوجة بالسماجة اوضح لى بكل الطرق انه يريدها – الايس كريم – دون قطع الشيكولا والمكسرات، والواقع ان توضيحه هذا اراحنى بان لديه من النقود ما يكفى لسداد قيمة الايس كريم. فى اقل من خمس دقائق كانت كأس الايس كريم امام الفتى، ونحن نرقبه نكاد نصرخ فيه بأن يبتلعها بسرعة ويمضى فما احوجنا لهذه الطاولة التى شغلها ليحتلها احد زبائننا المحترمين وما ننتظره من تيبس ينعشنا.

همس لى احد الزملاء بأن الاستاذ لبيب ترك لنا ثلاثة جنيهات بقشيشاً وان حصيلة الصندوق حتى الآن تجاوزت الاربعمائة جنيهاً…سألته وماذا عن مازن؟ سبعة….وعبير….خمسة….حصيلة لا بأس بها ومازالت الساعة لم تتجاوز التاسعة. كنت احدث صاحبى وانا اتابع فتى الايس كريم الذى كان يتلذذ فى نشوة حالمة بكل ملعقه تدخل فمه واكاد اشعر انه يمرر الايس كريم على كل عضو من اعضاء جهازه الهضمى ليتمتع بها متعة مضاعفة..وما ان يبتلع الملعقة حتى يلعق شفتيه وما حواليها بلسانه فى تلذذ…لم يكن يتمتع فقط بالايس كريم بل كان يتمتع ايضاً بالمكان ورواد المكان فكان ينظر حوله يتابع الناس الذين تواجد بينهم بصورة مفاجئة قد لا تتكرر… تباً لهذه الكأس التى لا تنتهى هكذا قلت لنفسى وانا اروح واجىء حوله ناظراً اليه فى ريبة وعدم ترحاب لاصيبه بالتوتر وافقده متعته واجبره على مغادرة المكان ولم اشعر بتأنيب فى ذلك فليأكل الايس كريم ويمضى فما يهمنى هم زبائنى وما سيدفعونه…

فهو بالكاد جمع ال25 جنيهاً قيمة الايس كريم بدون شيكولا ومكسرات فى عدة اشهر…كان الاولى به ان ينفقها فيما هو اجدى. استراحت اذناى وهى تسمع رنة ملعقة الايس كريم وهى ترتطم بجنبات الكأس التى صارت شبه خالية…وبقيت مترقباً للفتى فمن الممكن بعد ان اشبع شهوته من الايس كريم ان يمضى زائغاً، اقتربت منه بابتسامة زائفة يفهمها اى ساذج…اما هو فاعتقد انه وجد نفسه مجبراً على طلب الحساب الذى بالطبع كان جاهزاً امامه فى اقل من دقيقة..ولكن ما اثار ريبتى انه نهض واقفاً واستدار حتى يكون ظهره فى وجهى…وضع يده فى جيبه ثم امسك بالحافظة ووضعها على الطاولة….ومضى مسرعاً. كانت خطواتى نحو الطاولة اسرع من خطواته نحو باب الخروج وكانت حركتى ثم نظرتى لرجل الامن دافعاً لرجل الامن ان ينهض متحفزاً.

امسكت بالحافظة حيث اخرجت الشيك ثم اخرجت النقود التى تركها بسرعة وشعرت وكأن احدهم قد سكب على رأسى حالوناً من الماء البارد فقد كانت النقود التى تركها عبارة عن ورقة من فئة العشرة جنيهات واخرى فئة عشرون جنيهاً هى قيمة كأس الايس كريم….و خمسة جنيهات اخرى بقشيش رفض قطع الشيكولا والمكسرات من اجل ان يمنحها لنا.!!!

كأس الأيس كريم
بقلم مدحت موريس
(فكرة مقتبسة)
(voicy2005@yahoo.com)

شاهد أيضاً

يتساءل الجهلاء : أليس المحجبات مثل الراهبات؟

إسماعيل حسني الراهبة إنسانة ميتة، صلوا عليها صلاة الميت يوم رهبنتها رمزاً لمغادرتها العالم المادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.