الجمعة , مارس 29 2024
ريهام زاهر

البلياتشو ( الجزء الأول )

بعد ان أتم دوره ككل يوم ، اتجه البلياتشو الي بيته ليأكل ثم يأخد قسطا من الراحة ..
دخل بيته و أزال الألوان و الأقنعة من علي وجهه… ثم اتجه لسريره لينام… و لكن في تلك الليلة لم يستطع النوم لأن باله كان مشغولاً ، فقد سمع احد المديرين في السيرك يتحدث عن فكرة الاستغناء عن بعض العاملين الكبار في السن لإدخال أفكار و تقنيات حديثة علي يد شباب صغير السن ….
حاول ان يتذكر كم سنة قضاها في هذا السيرك ، فلم يستطع .. فهو يعمل فيه منذ صغره ، عاش بلا أب و لا أم ، بالكاد يتذكر عمه الذي توفي و هو صغير بعد ان اودعه في السيرك..
سنوات عديدة مرت عليه و هو كالآلة … حياته كله تدور حول وضع بعض الألوان و الأقنعة و عمل بعض الحركات الطريفة والبهلوانية لإضحاك الآخرين…
لا يتذكر انه ذهب لمكان آخر سوي بيته الصغير و السيرك . لا يتذكر انه خرج في نزهة مع اصدقاء او مع احد الفتيات . كان كثور مغمض العين يعمل في ساقية .
احس في تلك الليلة انه أفني عمره في لاشئ و بدون اي ثمار ..فلا أسرة و لا اصدقاء ..ربما بعض الاموال القليلة التي بالكاد قد تكفيه لبعض الوقت… أرهقه التفكير فنام .
و في الصباح لم يذهب لعمله كالمعتاد ، بل قرر ان يخصص وقت لنفسه ، فذهب و اشتري إفطاراً شهياً و ذهب ليجلس علي شاطئ النهر . لأول مرة يشعر بجمال الطبيعة … لأول مرة يسرح مع صوت مياة النهر … هدأت نفسه و بدأ يحس بالارتياح …
ثم تمشي في المدينة بلا هدف ، ماراً ببعض المتاجر و المحال ، و فجأة وقف امام احد المحال مذهولاً مصدوماً، كانت مجرد مرآة معروضة للبيع و لكن صدمته كانت في صورته هو داخل المرآة ، لقد كبرت ملامحه دون أن يدري ، كان قد بدأ في نسيان شكله من كثرة ما يضع من ألوان و مساحيق أخفت وجهه الحقيقي ، رأي وجه رجل حزين و عيون ذابلة ، هالته تلك التجاعيد تحت عينيه و حول فمه و رقبته ، كيف لم يرها من قبل ؟!! كيف تغير هكذا سريعا ً ؟!! و كيف لا يمتلك مرآة في بيته ؟!
دخل المتجر و اشتري المرآة و عاد لبيته و علقها علي أحد الحوائط…
و قبل ان ينام ، كان قد اتخذ قراره الأول بأن يترك العمل قبل أن يستغنوا هم عنه ، لم يكن يحمل هم المال لأنه كان قد ادخر مبلغاً يكفيه لبعض الوقت لحين يتدبر عمل أو مشروع خاص به …
و كان قراره الثاني و هو الأهم بأن يكتشف ما هدف هذه الحياة ؟ و ما سر السعادة ؟ و كيف يستطيع ان يستفيد بما قد يتبقي له من عمر بدون ان يضيع كما ضاعت منه سنوات طويلة ؟
ارهقه التفكير ايضاً فنام.
البلياتشو
( الجزء الثاني )
عندما استيقظ البلياتشو في صباح اليوم التالي ، بدأ يُخرج من دولابه ألعاب و عرائس و اعمال فنية كان قد صنعها بنفسه في اوقات فراغه .. فكانت بداية فكرة لمشروع.. بأن يصنع ألعاب و عرائس جديدة و يبيعها …
فبدأ بكل حماس و جمع أعماله و صنع عرائس جديدة …ثم ذهب لمتجر جاره و اقترح عليه ان يعرض الألعاب و العرائس في متجره مقابل جزء من الربح… وافق جاره بسهولة إذ رأي ان البلياتشو فعلًا موهوب و الاعمال كلها جميلة و متقنة بالفعل …
و هكذا انتقل البلياتشو الي مرحلة جديدة في حياته ، تحول من مجرد بهلوان في سيرك الي فنان و صاحب حرفة خاصة به…و نجحت تجارته و ربحت…
و في يومٍ ، جاء إليه جاره متحمساً و طلب منه ان يصنع عدداً كبيرا من الالعاب و العرائس لأن تاجر ثري اعجبه ما يصنع و طلب منه كمية كبيرة مقابل مبلغ مادي وفير ، ذاكراً ان كل الكمية سوف تُرسل كتبرع لدار أيتام…
و عندما علم البلياتشو ان التاجر سيتبرع بها لاطفال أيتام ، أصر ان يعطيها للتاجر مجاناً ، رافضاً نصيحة جاره الذي اتهمه بالغباء و الجنون .
في تلك الليلة ، بدأ في عمل الألعاب و العرائس بكل حماس ، لم يشعر بالوقت حتي انتهي من كل الكمية المطلوبة .
و مع بزوغ فجر اليوم الجديد ، خرج البلياتشو مسرعاً ليقابل التاجر الثري ليعطيه الكمية … و طلب منه ان يذهب معه للملجأ لعله يستطيع ان يُدخل البسمة علي وجوه الاطفال بحكم وظيفته القديمة …
الملجأ :
في دار الايتام ، دخل البلياتشو ظاناً بأنه سيخدم الاطفال و سيرسم البسمة علي وجوههم و يضحكهم ، ففوجئ بأنه هو المحتاج للخدمة و للبسمة و الضحكة….
وجد نفوساً بريئة جداً ،قد تكون فقدت الاسرة و قست عليها الحياة و لكنها لم تفقد البراءة الداخلية .. نفوس داخلها إيمان فطري و رجاء و أمل، قلوب بيضاء و ابتسامات صافية و ضحكات لا تعرف نفاق او كذب او تمثيل…
تعلق قلبه بالاطفال ، و شعر بأنه فارغ و ضعيف ..احس بأنه هو المحتاج لان يعيش في هذا المكان وسط هؤلاء الملائكة…
تغيرت حياة البلياتشو كاملة ، كان يومياً يزور اصدقاءه الاطفال في دار الايتام ، يجلس معهم بالساعات يحكي لهم القصص و يلعب معهم و يريهم حركاته البهلوانية و المضحكة ، و لكن مشاعره اثناء العروض البهلوانية لأطفال الدار كانت مختلفة تماما عن مشاعره ايام السيرك…
أصبح جدوله اليومي يبدأ في المساء حيث يسهر ليصنع الكثير من الألعاب ، و في الصباح يعطيها لجاره في المتجر ليبيعها ، ثم يجلس علي شاطئ النهر يختلي بنفسه في هدوء ، و بعدها يذهب ليشتري اطعمة و ملابس و حلوي و كتب و يذهب للملجأ ، حيث وجد هو ملجأه و راحته وسط هؤلاء الاطفال اليتامي …
أحبوه و أحبهم بصدق ، احس وسطهم بدفء عجيب.. وفوجئ بإختلاف في حياته و في قلبه و في فكره ، وجد نفسه يتعاطف مع مشاكل و هموم كل من حوله ، و بدأ يجد سعادته في إسعاد الآخرين … تعلّم هو من الأطفال التلقائية و الشفافية و البساطة … و كأن روح الطفولة هي روح معدية!! و بدأت ابتسامة جميلة حقيقية تظهر علي وجهه بعد سنوات من الجفاف و التمثيل و الإدعاء…
قضي سنوات جديدة في حياته يخدم هؤلاء الاطفال و غيرهم كثيرين …
المرآة :
و في يومٍ من ذات الايام، كان البلياتشو العجوز جالساً في بيته الصغير … كان يشعر بالإعياء و التعب من كثرة المجهود الذي يبذله ، لكنه كان سعيد غير متألم !! تنهد و تنفس بعمق ثم وقف مستنداً علي الحائط و اغمض عينه ليصلي … صلاة عميقة من القلب ….صلاة و اشتياقات حقيقية …. صلاة شكر لمن وضع داخله حياة جديدة و روح جديدة قبل ان يفوت الاوان ، شكر من أجل فرح حقيقي و حب متدفق يحس به و يغمره…
قضي وقتاً طويلاً يصلي ، و عندما فتح عينيه ، رأي المرآة – التي كان قد اشتراها – معلقة علي الحائط ،و عندما نظر فيها كانت صدمته هذه المرة مختلفة ؛ إذ أنه رأي عيوناً تلمع و وجهاً جديداً يشع شباباً و سلاماً و حياةً … حياة جديدة…. حياة أبدية !!
ريهام زاهر
فبراير 2016

شاهد أيضاً

يتساءل الجهلاء : أليس المحجبات مثل الراهبات؟

إسماعيل حسني الراهبة إنسانة ميتة، صلوا عليها صلاة الميت يوم رهبنتها رمزاً لمغادرتها العالم المادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.