الجمعة , مارس 29 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

البلسوار

مدحت موريس 

على شاطىء الجربى النيلى برأس البر قضينا سنوات المرح فى الستينات والسبعينات فما ان تأتى الاجازة الصيفية حتى نرتحل الى رأس البر حاملين امتعتنا وحاملينن ايضاً متاعب الشتاء الدراسية لنتخلص منها فى اعماق المصيف الجميل.

ولرأس البر مذاق خاص فهو مصيف عائلى لا تشعر فيه بأنك ضيف تأتى لتقضى فترة قصيرة ثم تذهب بعدها بل تشعر بأنك احد مُلاك المصيف شأنك شأن كل المصطافين.

ما اجمل الصور الفوتوغرافية التى تظهر فيها المودة والالفة بين الجميع والى جانب هذا تظهر المراكب التى تحمل المصطافين من والى الشاطىء وجميعها تحمل اسماء مختلفة اغلبها يحمل اسم اغانى كوكب الشرق ام كلثوم التى يعرفها ويردد اغانيها الجميع والغريب فى الامر ان اغانى ام كلثوم كنت تسمعها تصدر من حناجر جميع المستويات التعليمية بل وحتى غير المتعلمين والاغرب من ذلك ان اسمع قصائد ام كلثوم الصعبة لا سيما اراك عصى الدمع وولد الهوى وقد رددها الباعة الجائلين وسائقو النقل الذين بالكاد يعرفون القراءة والكتابة.

اعود الى رأس البر الجميلة فى العصارى والامسيات فما بين تجوال المدينة الصغيرة بالطفطف واكل الايسكريم من عربات الباعة الجائلين وهم اول من ابتكروا ساندويتش الايسكريم والذى انتشر فيما بعد كمنتج جاهز من منتجات الايس كريم اما فى رأس البر فكانوا يضعون الايس كريم بين طبقتين من البسكويت الهش ويسمونه ساندويتش اما الطفطف فهو الاتوبيس المفتوح ساعة العصر والذى كان يجول بنا احياء المدينة لا سيما منطقة اللسان الساحرة وهى نقطة التقاء البحر المالح مع رافد النيل العذب.

فى المساء يحلو لناالذهاب لسينما اللبان الشهيرة بعدها نكمل سهرة الليل البديع بالسير على شط النيل او على كورنيش النيل ولا مانع من تناول فطائر ابوطبل الشهيرة او لقمة القاضى وان كان الكثيرون يفضلون لقمة القاضى فى الصباح والفطائر فى المساء هكذا كانت ايام المصيف تمضى بنا وقد قسمنا الايام بأن نقضى يوماً على شاطىء الجربى النيلى ويوماً آخر على شاطىء البحر المالح وهكذا بالتبادل.

وعن نفسى فقد كنت مواظباً على ممارسة كل الانشطة المتعلقة بمصيف رأس البر بما فيها تناول الايس كريم بعد وجبة السمك الشهية فى الغذاء او تناول الفطائر قبل او بعد وجبة العشاء وذلك على اعتبار ان الطعام فى عرفنا يندرج ضمن انشطة المصيف الرئيسية. شىء واحد كنت دائماً اتجنبه بعد ما حاولت تجربته مرة واحدة الا وهو ركوب الامواج بواسطة تلك القطعة الخشبية المسماة بالبلسوار وهى قطعة خشبية مستطيلة طرفاها الصغيران يتجهان لاعلى لكنها من الاربع جهات بلا حواف….

وقد جربتها مرة واحدة وحاولت ان اركب بها احدى الموجات حيث ان وزنها الخفيف يساعد على ذلك لكنى فشلت…لا بالفعل فشلت بجدارة فالمفروض ان اركب الموجة وانا فوق البلسوار جالساً او واقفاً لايهم لكن ماحدث هو اننى وجدت رأسى وقد ارتطمت برمال القاع وعندما اعتدلت واستطعت ان اطفو برأسى المسكينة كان البلسوار والمجداف الخاص به هما اللذان فوق رأسى بعدها اعتزلت تماماً ركوب البلسوار بعدما ثبت لى عملياً انه هو الذى يركبنى ورفضت كل الدعوات لركوب الامواج وادعيت الحكمة عندما كنت اقول بفلسفة…لست انا الذى يركب الموجة اما الاصدقاء فكانوا يضحكون ويسخرون من دعابتى.

والحقيقة ان مشهد الشباب وهم واقفون فى ثبات فوق البلسوار متخطين الموج وهم ذاهبون الى العمق لا يفوقه جمالاً الا مشهدهم وهم عائدون الى البر وهو يقفون ايضاً فى ثبات فوق البلسوار راكبين فوق موجة عالية فيعتلونها فى سلاسة ثم تهبط بهم الى ما قرب البر…كان المشهد يبهر الجميع لاسيما الفتيات فى مرحلة المراهقة بل اننى لا ابالغ ان الكثير من الشبان كانوا يتعمدون ركوب الامواج اذا ما ازدحم الشاطىء وكانت نسية الفتيات كبيرة فينالون ما يرضى غرورهم من نظرات الاعجاب وهذه كانت اقصى الامنيات فى زمن كانت الاخلاق تسمو وترتفع على كل شىء آخر. صلاح زميل الجامعة كان افضل وامهر من ركب الامواج، رأيت ذلك بعينى فى مصيف رأس البر طوال سنوات الجامعة، ورغم ان ظروف الحياة فرقتنا الا انه لم يكن من الصعب ان اعرف انه استمر فى ركوب الامواج ببراعة واقتدار.

كان صلاح يأتى من العمق وقد اعتلى الموجة واقفاً فى ثبات فوق البلسوار وهو يرفع صدره لاعلى فى فخر ممسكاً بالمجداف باحد ذراعيه بينما يضع الذراع الآخر فى وسطه ليبرز عضلاته….حقاً كم كان المشهد مبهراً وهو يركب الموجة تلو الاخرى حتى مع بعد المسافة فيكفى ان ترى بارعاً يركب الموجة تعرف انه صلاح ويظل اهل الشاطىء يرددون اسمه حتى انتهاء المصيف وان ارادوا فى الشتاء استعادة ذكريات المصيف وايام رأس البر فسيذكرون ايضاً اسم صلاح.

لكن اسم صلاح الذى يركب الامواج بقى يتردد فى كل المواسم بعدما تعددت الامواج ولم تقتصر على فصل الصيف بل انها لم تعد تقتصر على البحر!!!!.
صلاح وقتها كان ثورياً اشتراكياً ناصرياً يسارياً لكنه بعد التخرج اعلن عن فشل التجربة الناصرية او الموجة الناصرية بل وتجنب استخدام ذلك الاسم “ناصر” وكل مشتقاته الا عندما اعلن انه يناصر الرئيس السادات فى خطواته وركب صلاح موجة السادات وحالفه الحظ عندما ارتفعت اسهم السادات عالياً بعد انتصار اكتوبر 1973 فأمن اكثر بسياسة السادات او بالاحرى اعلن انه يؤمن بكل سياسات الرئيس المؤمن ولم يجد غضاضة فى تكرار كلمة الرئيس المؤمن والتى لا تدل على معنى الا بأنه كان هناك رئيس آخر كافر…ولعله كان يعنى هذا…ثم ركب صلاح موجة المنابر فموجة الاحزاب وهو يتغنى ويركب موجة الحرية باسقاطات تلعن زمناً غابت فيه الحريات…

واخيراً ركب صلاح آخر موجات تلك المرحلة وهى موجة الانفتاح الاقتصادى….وكان عجبى ان صلاح الاشتراكى يتحول فى اقل من عشر سنوات الى مشجع شرس للرأسمالية. ثم حدث ما حدث وذهب السادات واحترت فيما سيفعله صلاح بعدما كان اسمه قد بدأ يتردد باعتباره من كبار المسئولين….وان كنت فى الحقيقة لم اكن اعرف واظنه هو ايضاً لم يكن يعرف اى مسئولية كان يتحملها. اما فى زمن مبارك فقد كانت الفترة الذهبية لصلاح …حيث الامواج من كل اتجاه تأتى والى اى اتجاه تمضى والحقيقة ان صلاح لم يترك موجة الا وركبها وللحق فقد كان بارعاً فى كل موجة يركبها…وعلى مدى تلاثين عاماً توقعت مع كل تغيير وزارى ان اقرأ اسم صلاح وقد تولى احدى الوزارات لكنه كان من الذكاء بحيث لا يتولى المسئولية الاولى فهو الآن لا يركب الموجة بمنطق البلسوار ولا بمنطق من حاول ان يلفت انظارهن من مراهقات ساذجات…لذا فقد احب الا يتصدر المشهد…. وتمضى ايام واعوام قوامها ثلاثون عاماً وتمضى ايام مبارك وتأتى ايام فوضوية احتار فيها صلاح ولم يركب اى موجة باستثناء الموجة الثورية الفضفاضة والتى تسمح بأن تقول كل شىء واى شىء طالما ان الامر لن يرقى عن كونه شعاراً.

ثم انحسرت كل الموجات وارتفعت موجة واحدة فقط وهى موجة الاخوان ولم يتردد صلاح عن ركوبها فاطلق لحيته وخلع بدلته وارتدى جلباباً بل وكان على وشك ان يشترى الكثير منها او بما يكفيه لعشر سنوات قادمة على الاقل لكنه فجأة وجد ان عصر الاخوان قد انتهى وحمد الله انه لم يتخلص من قمصانه وبنطلوناته وايضاً مجموعة البدل الشيك التى يقتنيها…..لكنه وقف متردداً لا يدرى اى زياً يرتدى واى موجة يركب. ومضى عاماً وعامان ولم اعد اسمع عن صلاح الا حين ذهبت بأسرتى الى رأس البر كعادتى كل عام وهناك رأيت صلاح وبالتأكيد لم يعرفنى فقد مرت به وجوه كثيرة فى حياته فكيف له ان يتذكرنى…اما انا فقد رأيت صلاحاً آخر فقد وجدته لا يركب الامواج ولا يركب البلسوار بل انه لا يقترب من البحر واندهشت لكن زالت دهشتى عندما علمت انه عندما اتى ليستقر برأس البر ركب البلسوار واراد ركوب الموجة فانقلب وارتطمت رأسه برمال القاع وعندما طفا برأسه فوق سطح البحر كان البلسوار والمجداف يستقران فوق رأسه.

البلسوار
بقلم مدحت موريس
(voicy2005@yahoo.com)

شاهد أيضاً

يتساءل الجهلاء : أليس المحجبات مثل الراهبات؟

إسماعيل حسني الراهبة إنسانة ميتة، صلوا عليها صلاة الميت يوم رهبنتها رمزاً لمغادرتها العالم المادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.