الأحد , أبريل 28 2024
الكاتب والروائى العالمى واسينى الأعرج

الجمهورية تتبعني حتى المساء؟

بقلم : الأديب الجزائري واسيني الأعرج

حينما أعود إلى رواية ضمير الغائب/ الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر، تنتابني تلك التفاصيل الخاصة بالجمهورية، وكيف انها ساعدتني على الوصول إلى تصوير قصة خيالية يحدث القسم الأكبر منها في جريدة الجمهورية. أو على الأقل كما تخيلتها روائيا، إذ نجد نفس الوضع الطوبوغرافي في البناء والشارع والمدخل والطوابق. نفس الأجواء. نفس قاعة التحرير. نفس الصحفيين الذين سرقت منهم لغتهم التعبيرية. نفس الأقسام والتقسيمات الإدارية، نفس الحب بين الصحفيين وأيضا نفس الخلافات. بل نفس القصة الخلافية عن عبان رمضان التي افرجت عنها لاحقا تصريحات بعض المناضلين في صفوف جبهة التحرير بما فيهم المرحوم الرئيس أحمد بن بيلا. تقول الرواية التي نشرت في طبعات عربية كثيرة لاحقا: الجزائر، مصر، سوريا، بيروت وغيرها، في افتتاحيتها: لظرف قاهر وخاص غادرنا الزميل الصحفي حسين بن المهدي بن محمد (الذي كان يشبهني كثيرا) إلى باريس في إجازة قد تطول. نطمئن القراء الأعزاء الذين راسلونا مستفسرين عن حالته الصحية، إنه في صحة جيدة والحمد لله. نؤكد لهم أن زاويته: شيء من الأرشيف، والتي استبدلت بزاوية: تعال معي السياحية، ستعود إلى الظهور مباشرة بعد عودة الحسين سالما معافى من مرضه الذي أصابه في الدماغ بشكل فجائي. الناس لم يعلقوا أبدا لأنهم عرفوا بالبديهة أن الحسين بن المهدي لن يعود أبدا وأن الزاوية احترقت نهائيا. واضح مما قلت في النص، الرؤية النقدية التي تبنتها الرواية، التي كانت جريدة الجمهورية أثاثها الخلفي من بدايتها حتى النهاية. تعلمت في الجمهورية كل أشكال الكتابة الإعلامية وطرقها وكيفية الاختزال والتبسيط، لكن رأيت أيضا من الناحية التقنية كيف تسير جريدة وطنية، والتقسيمات الموجودة فيها من إدارة ورئاسة تحرير وصحفيين وأرشيف. حدود المقبول إعلاميا من ناحية الرقابة وغير المقبول.

حتى الصحفي الذي اخترته للرواية كان يشبه حماسي قليلا ولكنه فكريا كان يشبه الرجل ذا الشعر الأبيض الذي سحرني بحبه وهدوئه وقوة شخصيته واحترافيته. لهذا احتوت ضمير الغائب/ الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر، كل التفاصيل التي كنت أعرفها عن الجمهورية. لكن يبدو أن الرؤية النقدية التي افترضتها في الكتابة الإبداعية، إذ أن بطل الرواية يستقيل من الجريدة ومن زاويته: شيء من الأرشيف، مقابل أن يقوم بتحقيق حول ظروف وفاة والده أو اغتياله من طرف أصدقائه إبان الثورة، ستتبعني وتعذبني حتى النهاية؟ إذ تحولت إلى لعنة حقيقية سأشرحها. عندما انتهيت من كتابة الرواية نهائيا يوم 28/12/1978 فكرت في نشرها، اقترح علي الصديق الأديب محمد الصالح حرز الله الذي كان يرأس القسم الثقافي في جريدة المساء الجديدة، أن ننشر الرواية مسلسلة. وهو ما تم تحت العنوان الفرعي الذي أعجبه كثيرا: الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر. وبدأت أتلقى ردود فعل جد طيبة منذ الحلقات الأولى وكان ذلك بالنسبة حالة من الانتشاء والانتصار للحق الذي رأيتني أدافع عنه. من حق الجيل الجديد وحقنا أيضا أن نعرف تاريخنا المتخفي ولا ينقص ذلك من قيمة الثورة التحريرية ولا من أبطالنا الذين لم يكونوا لا ملائكة ولا شياطين. الثورة الفرنسية العظيمة أكلت رؤوس من خلقوها، دانتون وبعدها روبيسبيير وغيرهما إذ انتهى الجمبع تحت شفرة المقصلة، لكنهم ظلوا في المخيال الفرنسي والإنساني أبطالا لأنهم أنهوا عرش طغيان الملكية.

إلى اليوم ما تزال الرؤية التقديسية والإيديولوجية هي المهيمنة في ثقافتنا وتاريخنا. فجأة كلمني الصديق محمد الصالح ونحن في الحلقة العاشرة من نسر الرواية، أن ازوره في القسم. ذهبت نحوه بسيارتي بوجو 504 الزرقاء. تفصيل نوع السيارة مهم. كان يعد الحلقة الحادية عشرة. سألني ضاحكا. هل كتبتَ في روايتك عن شخص تعرفه؟ اندهشت. حكيت له عن مناخ الجمهورية الذي تعلمت منه الكثير وعن الصحفيين الفرانكفونيين الذين وجدوا أنفسهم فجأة بلا لغة. قال ليس هذا قصدي. هل ألهمتك امرأة معينة من الوسط السياسي؟ ظننته يمزح. لكن جديته قللت من سخريتي حينما قال لي أنا جاد. أجبت بالنفي. أصفت؛ انا تحدثت عن سيدة ستاندار نجدها في كل المؤسسات، في الاتحاد النسائي وقتها وفي غيره، امرأة لا تحمل من السياسة إلا شكلها. منشغلة بتسريحة شعرها ولونه الفاقع بشكل مضحك، ومكياجها الذي لا توجد فيه أية أناقة. كور واعط للعور. تطلس فقط. وعن علاقاتها ومصالحها مع المجموعات المهيمنة في المجتمع أكثر من اهتمامها بقضية المرأة. أنا أحب المرأة الذكية والأنيقة. لكن لا يوجد في رأسي شيء بعينه.

فقال حزالله: اسمع هذه الحكاية. زارني في الأيام ألأخيرة شخص غامض وهو في حالة هيستيرية من الغصب، في عينيه دم محقن وسألني: هل يمكنني أن أرى السيد واسيني الأعرج. سألته هل تعرفه. قال لا. أضفت: انه لا يشتغل هنا. هو متعاون مع الجريدة فقط. هل فيه شيء تريد ان توصله له؟ قال وهو يطحن في أسنانه: هذا الرجل سألت عنه وقيل لي تعرفه من شعره الملفلف الذي لا يدخله المشط ولا الماء على ما يبدو. وسيارة 504 الزرقاء. ورابطت في شارع طرابلس في حسين داي، عند مدخل الجريدة لكن عمره طويلة لأني يومها كنت أحمل سكينة جزار وناويا على الشر. قال صديقي حرزالله بعد أن هدأته: لماذا؟ ماذا فعل لك رجل ليس مقيما حتى في العاصمة أصلا؟ قال الرجل الغامض: ما كتبه في الرواية التي تنشرها المساء يدل دلالة قاطعة أنه على علاقة مع زوجتي في الاتحاد النسائي. لا يمكن لكل التوصيفات الذهنية والجسدية والعادات الجنسية الحميمة ان تكون وليدة الصدفة. حتى الشامة الموجودة تحت نهدها الأيسر ذكرها بلا حياء. أجابه حرزالله: إهدأ. لابد ان يكون هناك سوء تفاهم. هو يتحدث عن قصص خيالية. ويقول الصديق حرزالله لم يقتنع الشخص الغامض إلا عندما قرأت له بعض تفاصيل الرواية التي لم تكن قد نسرت بعد ونهاياتها وتاريخ كتابتها الأصلي ومكانه، ليطمئن بأن ذلك محض صدفة. يومها كتبت مقالة نشرتها في المساء أيضا، تحت عنوان: موت الصدفة. كيف يمكن لكاتب أن يقتل دون أن يعرف لا قاتله ولا سبب قتله.

الصدفة أنقذتني من سكينة الجزار. تأملت الوضعية لاحقا وخلصت إلى فكرة أضحكتني. قلت في خاطري ربما هي لعنة الجمهورية التي كنت قد غادرتها وتبعتني حتى جريدة المساء، قبل أن أعود لاحقا مراسلا لها ومحررا فيها، من بلاد الشام عندما أسس الصديقان الحبيب السائح وبلقاسم بن عبد الله ملحق الجمهورية، النادي الأدبي، في إصداره الأول الذي احتضنه بسرعة مثقفو الغرب والجزائر قاطب.

شاهد أيضاً

أمريكا

المصريون يعلقون على زواج التؤام الملتصق “أهى زوجتين فى زواجه واحدة بدون غيرة “

بدون غيرة وكيد النساء المتمثل فى الزوجة الثانية ، التى وصلت فى بعض الحالات هى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.