السبت , أبريل 27 2024
واسيني الأعرج

تنامي ثقافة العدمية على هامش إعتداءات نيس الإرهابية .

الجريمة الإرهابية التي ارتكبت فــــي مدينة نيس، في جادة الإنكليز، ليلة 14 تموز/يوليو، المــصادفة للاحــتفال بالعيد الوطنــــي الفرنسي، تدعونـــا إلى التفكـــير في إحـــدى أهم صفات الإرهاب الــتي ترسخــــت مع الزمن لدرجــة أن أصبحت حقيقة عضوية تكوينية أساسية في بنيته الفكرية: العدمية le nihilisme..
فقد تحولت هذه الممارسة، التي تطورت بشكل سريع في ظل الاختلالات الدولية والحروب، إلى ثقافة قائمة بذاتها، تحكمها ضوابط داخل الجريمة نفسها، يصعب فهمها لكن لها منطقها الداخلي، وأيديولوجيتها التي تبررها، أو توفر لها غطاء فتبدو وكأنها تدافع عن قضية عادلة، وتزيح ظلماً ما. ولهذه العدمية أيضاً هدف محدد، يستهدف التأكيد على وجودها على الرغم من كل الضربات التي تتلقاها في أمكنة كثيرة عبر العالم. محركها الضامن لاستمرار وجودها الإعلامي، القتل الأعمى الذي لا يراعي أية حسابات إنسانية. ولا أي تفكير في طبيعية الضحية، إذ يتساوى كل شيء لدرجة التسطح، ليس شرطاً أن يكون شرطياً أو ممثلاً رمزياً للدولة، المستهدف أيضاً، المواطن العادي، المسلح وغير المسلح، المرأة الحامل، الطفل، الطبيب والأمي، الديني واللاديني، وغيرها من المواصفات التي تسطحها العدمية وتجعلها متساوية أمام الموت. البشر في النهاية كومة من الأعداد لا أكثر، بقدر ما تتصاعد وتكبر، يكون الفعل الإجرامي قد حقق غايته الأساسية. لأن العدمية في الجوهر، محكومة بمنطق الأرقام ودرجة الضرر البشري والمادي. الضحية في هذه العدمية مجرد رقم يضاف أو ينزع بحسب الحاجة.
المحتوى التاريخي لمفهوم العدمية يبرر كل هذه الممارسات، ويوضح أيضاً طبيعتها الجوهرية. حتى تعريفياً فهي لا تخرج عن هذا. فكلمة العدمية لاتيني. Nihilisme. ومعنى كلمة nihil هو اللاشيء. أي الخروج عن كل المواضعات الإنسانية والدينية ومجمل القيم المتفق عليها بشرياً. ويكون هذا الخروج مؤسساً على نظرة تشاؤمية مقصية لكل شيء ولا تبقي إلا ما افترضته حقيقة. حقيقتها المطلقة. العدمية ليست لاتاريخية. بدأت في روسيا في منتصف القرن التاسع عشر. فقد رفضت سلطة الدولة والكنيسة الأرثودوكسية وحتى العائلة، وطالبت بنظام مجتمعي مبني على تصوراتها قبل ان تنتهي في شكل حركات إرهابية. وكان أول من استعمل مصطلح العدمية هو الكاتب الروسي إيفان تورجنيف Ivan Tourgueniev في روايته الشهيرة: الآباء والأبناء (1862)، من خلال بطل روايته بزاروف الذي اتسم في موقفه بالنزعة الراديكالية الأمر الذي جعل الرواية تتحول في وقتها إلى «بيست سيلر»، وأصبح بزاروف رمزاً للمثقف الرافض لكل النظم. قبل أن يتطور مفهوم العدمية من الرفض إلى التسلط والإرهاب، وعدم قبول أي نظرة مخالفة ليقينها. وصل هذا الإرهاب العدمي واليقيني في روسيا، من خلال مجموعة نارودناية Narodnaïa المضادة للقياصرة، إلى اغتيال الامبراطور الكسندر الثاني وهو من أكثر المصلحين الاجتماعيين والدينيين.
المجتمع الصناعي وفر للحركة العدمية فرصة لكي تتحول إلى قوة تدميرية، نشأت من صلبها إيديولوجية تضع في الأمام عبثية عالم وقيم وأفكار لا يرضيها، وتحاربه بتطوير السبل الإرهابية. هذا الميراث الذي يتأسس عليه اللاشعور الجمعي للعدمية في تعاملها مع المجتمع والبشر والقيم بشكل عنيف، يضع السلطات في مواجهة آلة قتل لا منطق ظاهراً لها، إذ القتل نفسه هو منطق العدمية. أي أن الأسباب غير مهمة لأنها تقع خارج الاهتمامات التي يشكل فيها الانسان قيمة ثقافية، مجرد حاجة عددية لإثبات ذات متهاوية باستمرار على كل الصعد. لا مبالغة في القول بأن العدمية هي في النهاية انفصال كلي عن كل ما يربط البشر بعضهم ببعض في أفق إنساني، ويؤكد على مشتركهم القدري. وتبتذل العدمية كل شيء بما في ذلك ما تظنه قيمة دفاعية عن دين هو عرضة لكل التأويلات، حتى أكثرها بدائية ولا إنسانية.
تجدد وسائلها الإجرامية بحسب الظرفية والأوضاع وطبيعة هامش المناورة الذي تملكه. ما دام الانسان انتفى كقيمة لها طابع القداسة، في وعيها ولا وعيها، ليس مهماً أن يقتل، ولا الطريقة المستعملة التي تبدأ بالاغتيال الفردي الذي يتم عادة سيرته سينيمائيا كما هي حالة الطيار الأردني الذي تم حرقه، أو كما اغتيل الكاتب الجزائري الطاهر جاووت على يد بائع حلوجي، أو جاهلاً لم يقرأ حرفاً مما كتبه نجيب محفوظ، يحاول ذبحه. والأمثلة كثيرة، مروراً بالاغتيال الجماعي الذي ليس فيه البشر أكثر من أرقام. باستعمال السيارات المفخخة المحشوة بالمسامير والقطع المعدنية الحادة، وبكميات كبيرة من ت ن ت TNT الشديد الانفجار، لحصد أكبر عدد ممكن من الضحايا كما هو الحال في العراق اليوم وسوريا واليمن، أو الجزائر في سنوات الرماد 93-94. في ظل الرقابة الحادة على حركة الأسلحة والمتفجرات التي حيث يمارس الأمن الدولي على المجموعات الإرهابية، تتآلف العدمية مع الأوضاع كالدهس مثلما حصل في نيس، حيث تصبح عملية المراقبة والمتابعة صعبة جدا.
اختيار أوقات التنفيذ ليس أمراً عبثياً. الاحتفاليات الكبيرة في منظور العدمية مسألة مهمة لأنها مساحات توفر إمكانية قتل أكبر عدد ممكن من البشر. ولا نعرف أي فائدة تجنى من وراء ذلك سوى العدمية المقيتة. ما حدث في بغداد، في عزّ فترة عيد الفطر، يبين ذلك بوضوح. فقد حولت الحركة الإرهابية داعش، حي الكرادة في بغداد المكتظ بالناس بمناسبة أيام العيد، الى مسرح للموت بتفجير انتحاري خلف أكثر من 300 قتيل. جاء التفجير العدمي أياما قليلة بعد نجاح القوات العراقية في استعادة مدينة الفلوجة من داعش وعزمها استعادة الموصل بعد عيد الفطر.
والشيء نفسه، وبالطريقة نفسها مع اختلاف أداة الجريمة، يمكن أن يقال عن اعتداء مدينة نيس الفرنسية الذي خلف 84 ضحية، بالدهس وقتل الناس، وهم في عز احتفالهم وعطلتهم الصيفية. المحصلة عملياً واحدة، الدفع بالجريمة إلى أقاصيها، والعدمية إلى سواد اكتشافاتها، في الموت، التي لن تتوقف ما دام غريمها، الإنسان، ينتصر للحياة. الحياة وحدها.

شاهد أيضاً

ليلة أخرى مع الضفادع

في ضوء احداث فيلم الوصايا العشر بشأن خروج بني اسرائيل من مصر التى تتعلق بالضربات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.