الجمعة , مارس 29 2024

نادية خلوف تكتب :تغيير على سّيرتي الذّاتيّة

في سيرتي الأولى كنت أنتمي إلى القطيع. لم أنظر إليّ،  كنت أركض مع الرّاكضين، وعندما أسبقهم يشجّعونني على الموت كي يمجدّون حكايتي، ويصعدون من خلالها كما فعلوا، وكما يفعلون. رأيتني على حافّة السّقوط فأجريت تعديلاً على سيرتي الذاتية. أصبحت أنتمي إلى الإنسانيّة. 

عندما يصبح اللعب مجرّد شجار عليك أن تنسحب من اللعبة، وإن وصل الأمر إلى حدّ اختلاط  جميع الأصوات ببعضها البعض . اختبئ ريثما ينسحب البعض من اللعبّة. هذا قانون اللعب عند الأطفال، هو قانون ربما يصلح للكبار أيضاً.

أقوم الآن بمسح ذاكرتي من قراءاتي جميعها. كنت قارئة نهمة تغوص في قاع الفكرة، وترتديها، فقلت لهذا الكاتب ما أروعك! ولذلك العالم ما أعظمك! اكتشفت مع الزّمن أنّ الشّاعر لم يكن شاعراً، ولا العالم عالماً. كانوا يعيشون معاً ضمن خيمة من  حرير. الطريق واضح، معروف. يمكنك أن تكون جزءاً من اللعبة لو عملت عليها، بالنسبة لي لم أعمل عليها ليس لأنّني لم أكن أريدها، كنت أحتاج عملاً قبل أن ألعب.  قدمت على وظيفة قاض، ومحامي دولة، وضاعت أوراقي في المرّتين!

انسحبت من اللعبة بإرادتي هذه المرّة، فالضجيج يصمّ الآذان، وتعتبر فترة الاختباء هذه فترة تأمّل، أمارس فيها محو ذاكرتي تجاه قراءاتي، تقول ذاكرتي: أولئك الثّوريون الذين قرأت لهم كانوا ينعمون بالحياة، وليس كما ظننت أنّهم ثوّار. كانت القصور مفتوحة أمامهم.

أناهض ذاكرتي أحياناً، تأتي لي بالبرهان، وأكتشف أنّ ثوار الأمس، والتّجار كانوا في علاقة صداقة، لدرجة أنّ أحد الثّوار بالشّعر كانوا يتزاحمون على دعوته   إلى بيوتهم، ويشبعونه خمراً كي يحيي لهم حفلة شعر.

هاربة إلى الحياة. أحبّها، وأحبّ أن أعيشها. الكثير يعيشونها بطريقة مثاليّة. ثورة، سهر، مال، ومنصب، وتعاطف ، فإذا كان الإنسان يحتاج في اليوم الواحد لمن يضّمه سبع ضمّات، فهذا العمل الجماعي يوفّر لهم هذه الحاجة، ينامون ملئ عيونهم ، ولا زالوا يطمحون بيوم آخر، هم عاطلون عن العمل، ولديهم فراغ كاف ليمارسوا فيه تلك النّشاطات.

لستُ من هؤلاء ، وليس باستطاعتي إلا أن أكون أنا. أعمل وفق رؤيتي حتى لو اضطررت للاختباء، وبهذه المناسبة فإنّني لست نادمة على تلك المقالات السّياسيّة التي كنت أتحدّث فيها عن النّظام، ولا التي تحدّثت فيها عن المعارضة، وأعلن أنّني لن أعود إلى حضن الوطن بوجود النّظام، وفي غيابه، ولا أحترم من يعود عن فكرة مارسها عن قناعة حتى لو تغيّرت قناعته فيما بعد.

أشعر اليوم أنّني أعيش كما أرغب، أتمتّع بوقتي، ولا أتأثّر بالأخبار التي تبثّها المواقع أو الفضائيات.  لا زلت أبكي مع الأمّهات. نتخاطر معاً، أغنّي لهم أغاني ندب، ننوح ، وتغسل خدودنا الدّموع. ولا يعود أبناءهن من القبور. 

لا أقرأ الصّحف، ولا أسمع الفضائيات، ولا أتفاعل مع وسائل التّواصل. عدت إلى قراءة الأدب الكلاسيكي، وسيكون لي كتابات أدبية، واجتماعية أكثر، وسوف أغوص في الخيال، فما خلقت من أجل أن أشتم هذا، وأمدح ذاك. أطرح فكرة في كلّ مرّة، وهي إعادة الحياة الأدبية، والفنّية ، والاجتماعيّة بشكل جديد. شكل  يمجّد القيم، ولا يمجّد الأشخاص. نتمتّع من خلاله بالشّعر، ولا نغرم بالشّاعر، وندافع عن حقّ الإنسان في الحياة. هل من متعاون؟

 من المؤّكد أنّ عدّداً لابأس به يريد هذا ، لكن لا جدوى دون تمويل، ومع السّعي سوف نتوصّل إلى حلّ ، وسيكمل من يأتي بعدنا بناء نفسية الإنسان الجديد في بلداننا . ذلك الإنسان الذي يحبّ الحياة، يتمتّع بها، ويقدّسها. يحب الأدب، والشّعر، والرّقص والغناء، وسوف تختفي ثقافة الموت. لا نعرف متى، ولكنّ الأمر لا يقاس بالسنين

شاهد أيضاً

يتساءل الجهلاء : أليس المحجبات مثل الراهبات؟

إسماعيل حسني الراهبة إنسانة ميتة، صلوا عليها صلاة الميت يوم رهبنتها رمزاً لمغادرتها العالم المادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.