الجمعة , أكتوبر 4 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

5 شارع الاتابكة

هو الشارع القصير الواصل بين شارع الترام الازرق الشهير احد رموز المدينة الساحرة الإسكندرية وطريق الحرية الذى هو ثانى اطول شوارع الاسكندرية بعد شارع الكورنيش، وقد احترت فى طفولتى فى فهم معنى كلمة الاتابكة وكنت كطفل اعتقد ان الاتابكة

ما هو الا اسم مرادف لتنابلة السلطان ولكنى ادركت بعد سنوات طويلة انى كنت ظالماً للاتابكة التى اتضح لى ان معناها ابعد ما يكون عن معنى التنابلة فهى الجمع لكلمة اتابك وهو لقب تركى اطلقه المماليك السلاجقة على بعض رجال البلاط من قادة العسكر…

لكن فهمى لمعنى الكلمة لم يمنع تعجبى من اطلاق اسم الاتابكة على احد شوارع الاسكندرية مع يقينى التام بأن سكان الاسكندرية وضواحيها يجهلون معنى كلمة الاتابكة. ومع كل ذلك فان الشارع لا يعنينى من قريب او بعيد ولا حتى العمارة الكائنة فيه والتى تحمل الرقم خمسة فما يعنينى هنا هو تلك الشقة بالدور الاول من العمارة….شقة جدتى.

الشقة التى شهدت سنوات الطفولة والتى تترجم ايضاً عنوان البراءة الحقيقية لاطفال يتجمعون فى تلك الشقة الصغيرة والتى كنت اراها فى طفولتى كبيرة.

كنت واخوتى نقيم مع والدينا فى الشارع المجاور فكنا نرى جدتى كل يوم فان خرجنا من المنزل نمر على بيت جدتى وفى طريق عودتنا ايضاً نطرق باب جدتى فتميزنا عن بقية الاحفاد الذين كانوا يأتون على فترات من محافظات اخرى بل ان البعض منهم كانوا يأتون فقط فى الاجازة الصيفية. كنت الاصغر بين اخوتى فكانت امى تتركنى لدى جدتى فى الصباح وتذهب لقضاء مشترياتها فكان لى الحظ ان اشهد طقوس جدتى…

فكنت اجلس بجوارها على الاريكة وامامها صينية تجمعت فيها سبرتاية صغيرة وكنكة قهوة وفنجان…

تغشى رائحة القهوة انفى واتنسمها فى تلذذ بينما تسكب جدتى القهوة داخل الفنجان وتبتسم عندما تتكون فقاعة على وجه القهوة وافهم منها ان هذه الفقاعة علامة مؤكدة بأنها ستتلقى اموالاً عن قريب…

تقول هذا وهى ترتشف القهوة الساخنة ثم تسكب لى بعضاً منها على طبق الفنجان لاتذوق طعم القهوة اللذيذ ثم تقلب الفنجان على وجهه و تمسك به ثانياً وتنظر الى الخطوط التى صنعها البن فى الفنجان وتهز رأسها للحظات ثم تضع الفنجان على الصينية معتدلاً

وهنا يأتى دورى فانظر داخل الفنجان فى بلاهة ولا افهم شيئاً سوى ان جدتى تتمتع بخيال رائع يجعلها تترجم تلك الخطوط كيفما تشاء. كانت جدتى ماهرة فى العمليات الحسابية فكانت تطلب منى ان ادون مشترواتها واجمعها لها وقبل ان اخبرها باجمالى ما صرفته كانت تخبرنى هى بقيمة المصروفات دون ان تنظر الى القائمة التى اعددتها….

امر آخر لم ادركه عن جدتى الا بعد سنوات طويلة من رحيلها فقد اعتادت بعد ان تنتهى من تنظيف المنزل ان توصد الشيش وتطلب منى الا افتحه لئلا يدخل الطير…

وكنت اضحك من تعبير الطير الذى تستخدمه وتعنى به الحشرات الطائرة لاكتشف انها تستخدم الترجمة الحرفية لاهل الغرب فهم يقولون عن الحشرات الطائرة ( فلايز) لا شك ان لجدتى ثقافة غربية . . كنت اعلم ان جدتى ليست ميسورة الحال فمعاش جدى جنيهات قليلة يضع فوقها جنيهات اخرى من عمله فى محطة البنزين..اما جدتى فهى بالطبع لا تعمل فهى تنتمى الى الجيل الذى لم تعرف البنات طريقها الى المدرسة او حتى الكُتاب ففتيات هذا الجيل خُلقن من اجل الزواج والانجاب.

وبالرغم من ذلك ومع هذا لم نكن نشعر ابداً ان جدتى تمر بأى ضائقة مالية فنتجمع كلنا نأكل ونشرب وكل شىء متوفر فهى قادرة على تدبير امور حياتها بجنيهاتها القليلة ولا احد يعرف كيف تتدبر الامور هكذا سوى الله و…جدتى.

يتجمع كل افراد الاسرة الكبيرة فى ليالى الصيف بمنزل جدتى بناتها الخمس بازواجهن علاوة على الاحفاد باعمارهم المتفاوتة…تعلو الاصوات ويزداد الضجيج وجدتى سعيدة…ترتفع الضحكات مع بعض من المناوشات وسعادة جدتى لا توصف….وهكذا كان دائماُ منزل جدتى.

هذا المنزل الكبير – وقتها – والذى كان حجمه يصغر كلما كبرت انا كان الملجأ والمأوى لنا جميعاً….كنت عندما اغضب اذهب الى منزل جدتى ثم اعود وانا لا اتذكر شيئأً عن غضبى…كان كل من لديه هموم بسيطة كانت او كبيسة كان يذهب لمنزل جدتى واحياناً كان يفضفض معها بالكلام وهى لا تملك سوى ان تسمع وتُطيب خاطر محدثها بكلمات لا تقدم ولا تؤخر وبالرغم من معرفتنا الاكيدة المسبقة بكلماتها المتكررة الا ان تلك الكلمات كان لها فعل السحر لدينا…فكانت النفس تهدأ والاعصاب تستكين وتستريح حتى انه جال بخاطرى الطفولى ان جدتى ساحرة.

الاكثر من هذا ان تلك الشقة السحرية الصغيرة صارت الملجأ والملاذ للعائلة فعندما تنتقل احدى اسر العائلة من احدى المحافظات للاقامة بالاسكندرية كانت شقة جدتى هى المسكن المؤقت لتلك الاسرة حتى تنجح فى العثور على سكن دائم تكرر هذا الامر كثيراً وايضاً احتضنت تلك الشقة الصغيرة بعض شباب الاسرة الذين تزوجوا حديثاً لحين ايجاد سكن آخر لهم..

وهكذا صارت 5 شارع الاتابكة تمثل لدينا غسل الهموم وراحة الاعصاب والحل المؤقت الدائم للمشاكل المستعصية على مدى سنوات عمرنا او بالحرى على مدار العمر الذى عشناه فى حياة جدتى. ولأن دورة الحياة تمر مسرعة صارت جدتى سيدة مسنة واصابها مرض خبيث حاول الجميع اخفاء حقيقته عنها وايضاً عن جدى الذى كنا نراه دوماً موفور الصحة لا يشكو من اى معاناة جسدية…ولكنه – جدى – بصورة او بأخرى اكتشف حقيقة مرضها واذ به يودع الحياة طائعاً بعد ايام من معرفته بمرضها. وبقدر ما بكيناه ككبير للعائلة بقدر ما التففنا حول جدتى محاولين ان نداوى نفسها المتألمة بعدما فشلنا فى مداواة جسدها المريض، لكنها اختارت ان ترحل فى سلام فى تذكار الاربعين لجدى وكأنها ابت ان يفارقها الا لايام قليلة.

وغابت جدتى عن مسرح الحياة. واصبحت 5 شارع الاتابكة عبارة عن جدران وبعض الاثاث الخالى من الحياة…وافقنا على كون الشقة المستاجرة قد مات مستأجرها ويطلبها مالك العقار فرفضنا وبحثنا فى دهاليز القانون عن احقية لاحدنا فيها….ثم بدأت اجراءات التقاضى واستمرت لسنوات طوال غادر الحياة فيها كل المتقاضون الاساسيون وبقيت 5 شارع الاتابكة يتنازع عليها الجيل الثالث من ورثة المالك والمستأجر..

وفى النهاية آلت 5 شارع الاتابكة الى ورثة مالك العقار الذى استطاع بسهولة شراء شهادة حارس العقار وبعض المستأجرين. وتمضى الايام وتبتعد 5 شارع الاتابكة عن اذهاننا الا قليلأ عندما نشتاق الى راحة نفسية قد نفتقدها….وهكذا عشنا حياتنا نتذكرها بعض الوقت وننساها معظم الاوقات….وعندما زرت الاسكندية بعد اكثر من ثلاثين عاماً على رحيل جدتى قادتنى قدماى الى نفس العنوان…5 شارع الاتابكة ورفعت رأسى لارى الشرفة الاولى جهة اليسار واذا بلافتة مضيئة كُتب عليها عيادة الدكتور صبرى الغنام للامراض النفسية والعصبية…ابتسمت ودون ان ادرى صعدت ودخلت من باب العيادة المفتوح حيث استقبلتنى الممرضة بترحاب فطلبت منها مقابلة الطبيب فى امر شخصى، كنت احدثها دون ان انظر اليها حيث كانت عيناى تتجولان فى المكان وتستكشفه ويبدو ان الممرضة هى الاخرى كانت تحاول استكشاف حقيقة مرضى وحقيقة محاولتى تجنب النظر اليها كما تظن….

التقيت الطبيب وقدمت له نفسى وعبرت له عن اشتياقى للتجول فى الشقة التى تحولت الى عيادة….

وتفهم الطبيب الموقف وسمح لى بما اردت او لعله رأى ان طلبى هذا ما هو الا نوع من العلاج اللازم لمن هم فى مثل حالتى !!!! تجولت قليلاً وابتسامتى تتقدمنى ثم ذهبت لغرفة الطبيب فشكرته ونزلت درجات السلم وانا اسمع صوت جدتى وشعرت براحة نفسى واسترخاء اعصابى ومرة اخرى واخيرة رفعت رأسى نحو اللافتة وضحكت ضحكة مكتومة وانا اقرأ اللافتة..عيادة الدكتورة فيكتوريا برسوم للامراض النفسية والعصبية.

شاهد أيضاً

المصريون يعتقدون بأن “الأكل مع الميت” فى المنام يعني قرب الموت .. وعالم يؤكد بأنه خير

يستيقظ جزء كبير من المصريين باحثين عن تفسير ما كانوا يحلمون به بالليل بل ويقضون …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.