الثلاثاء , أبريل 16 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

مدحت موريس يكتب : الوهم

جلس ساكناً بمكتبه ،عيناه شاردتان وعقله سارحاً ، طالت جلسته الساكنة حتى بدا لمن حوله انه قد انعزل تماماً عن الزمان والمكان ، كانت الأجواء من حوله على عكسه تماماً فالموظفون في بداية يوم العمل يذهبون ويجيئون في سرعة ونشاط اما هو فلا يدرى كيف ومتى غادر فراشه ثم قاد سيارته الى الشركة.

انتبه اخيراً الى أن احدى زميلاته واقفة الى جانب مكتبه تطالبه بتوقيع بعض المستندات، نظر نحوها بعينين زجاجيتين فرأى صورة مشوشة لوجهها وشفتاها تتحركان دون ان يسمع كلماتها لكنه فهم ما تريده فأمسك بالأوراق وراح يوقع دون ان يعي او يقرأ حرفاً واحداً، نظرت هي نحوه في دهشة في الوقت الذى نهض فيه فجأة متوجهاً لمكتب المدير حيث غاب لدقائق خرج بعدها ليستقل سيارته عائداً مسرعاً الى منزله.

كان في انتظاره فى المنزل عيون أخرى اندهشت لعودته مبكراً من عمله…زوجته وابنته لكنه لم يدع لهما فرصة للتساؤل فغمغم ببضع كلمات غير مفهومة وذهب لغرفة نومه حيث بدل ملابسه ودثر نفسه تخت الغطاء، لحقته زوجته بعد دقائق ففتحت الباب ووقفت تحدثه متسائلة لكنه استوقف كلماتها وتساؤلاتها بصوت غطيطه في النوم الذى زاد من دهشتها فكيف له أن يذهب هكذا سريعاً الى عمق النوم.

شعر بالارتياح وهو يسمع باب الغرفة يُغلق من جديد ففتح عينيه تحت الغطاء وبدأ يستعيد كابوس العشرة أيام الأخيرة ، منذ ان شعر بقلبه يخفق بسرعة ورأى العرق البارد يتصبب على وجهه…..انه الاجهاد…نعم الاجهاد ذلك كان رأيه وعززته آراء كل المحيطين به لكن استمرار الاعراض لعدة أيام مع حالة فقدان الشهية التي عاشها جعلت الخوف يمتملكه فذهب الى عيادة الطبيب وهى خطوة يفهم جرأتها من يعلم مدى كراهيته للأطباء لكن لحسن الحظ كان الطبيب رجلاً بشوشاً فاستقبله استقبالاً أزال مخاوفه لكن هذا الحال لم يدم طويلاً فبعدما قام الطبيب بفحصه وفحص تخطيط القلب الذى اجراه عادت المخاوف الى نفسه و لم يكن بحاجة الى ان يسمعه فوجهه المتجهم كان يعبر عن النتيجة ولم يعد لديه سوى ان يتساءل عن المدة المتبقية له في الحياة…

نظر الطبيب نحوه وهو يحاول استعادة الوجه البشوش والابتسامة المطمئنة…سأله عن التدخين، الاطعمة التي يأكلها والمشروبات التي يشربها وخيل اليه انه سيسأله عن نوعية الملابس التي يرتديها…سأله عن كل شيء لكنه لم يفده بشىء طلب منه عمل بعض التحليلات في اسرع وقت ممكن، نصحه بالاقلاع عن التدخين وحذره من المياة الغازية…فهم منه انه يعانى من شيء ما بالقلب لكنه لم يفهم ما هو هذا الشىء. من عيادة الطبيب الى الصيدلية ليشتري الادوية ولأول مرة في حياته يلتزم بتناول الادوية وايضاً في مواعيدها الموصوفة…ايام تمضى على الالتزام ووجد ان حالته تسير الى الاسوأ والاعراض التي يعانى منها تتضاعف ويزاد عليه اعراض أخرى…

لم يعد للخوف مكاناً لديه فقد ذهب الخوف وحل محله الرعب وشتان الفرق بين الاثنين فالخوف يربك فيتصرف الشخص منا بعشوائية بينما الرعب يصيب الانسان بالشلل فيبقى مكانه مستسلماً منتظراً ضربة القدر. حاول الا تستسلم اذهب لطبيب آخر…دعك من هذا الدواء ومن كل الادوية عليك بالاعشاب الطبيعية…لديك مشكلة بالقلب هذا شيء واضح على وجهك…

نصائح ووصفات سمعها من الكثيرين من الاهل والأصدقاء سواء من قابلهم او عبر الهاتف، كان احدهم طبيبأً عبر له عن اعتقاده في خطأ الوصفة الطبية، وتداخلت كل الأمور فلم يعد يعرف من قال له ماذا!!!! لكنه ذهب الى المعمل ليحصل على نتيجة التحاليل ومن المعمل الى مقر عمله حيث عكف زملاؤه المهندسون على قراءة نتيجة التحاليل وبين كل تلك الآراء كانت الأرض تموج به وشعر انه سيفقد وعيه فتمالك نفسه واستأذن من مديره في العمل ليعود الى منزله ليقبع في فراشه مستسلماً لضربة القدر القادمة انفتح باب غرفة نومه مرة أخرى وهى ايضاً زوجته، طلبت منه بإلحاح الذهاب لزيارة الطبيب ، لم يعترض وذهبا معا لعيادة طبيب آخر غير الذى ذهب اليه اولاً فلم يشعر بالارتياح مع ذلك الطبيب

ولكن للأسف كان المصعد معطلاً فوجد نفسه مضطراً للصعود مستخدماً السلم فكان يصعد بعض الدرجات ثم يتوقف دقائق ليستريح بل انه مع اقترابه من الدور الرابع حيث عيادة الطبيب جلس على احد درجات السلم وهو على يقين ان قلبه سيتوقف ،انتظر في دوره زمناً يسيراً ثم دخل الى الطبيب الذى فحصه وراجع الوصفات الطبية ثم راجع نتيجة التحاليل وابتسم له مطمئناً وطلب منه التوقف عن تناول الدواء لحين اجراء مجموعة أخرى من التحاليل…رغم ان الطبيب لم يعطه رداً قاطعاً الا ان قدراً من الاطمئنان تسلل الى قلبه بل وشعر ان قلبه قد استقوى بكلمات الطبيب.

كانت فترة صعبة في حياته تلك التي أمضاها في انتظار نتيجة التحاليل لكن بمجرد ظهورها ذهب بها مباشرة للطبيب دون استشارة زملائه المحبين له في العمل ،لم يلتفت اذا ما كان المصعد يعمل او معطلاً لكنه اتجه رأساً وصعد درجات السلم بسرعة تعكس لهفته لمعرفة النتيجة، استقبله الطبيب وراجع التحاليل ثم فحصه بسرعة بينما هو يترقب وجه الطبيب محاولا قراءة النتائج…ابتسم الطبيب وشرع يكتب له بعض الادوية وهو يشرح له بأنه في حالة صحية جيدة وان كل الاعراض التي يعانيها تتناسب تماماً مع مرحلته العمرية حيث انه في منتصف الخمسينات .

تذكر كل ما مر به في تلك الفترة وهو جالس مع زوجته في نفس العيادة بعد اكثر من خمس وعشرين عاماً وقد جاوز الثمانين بقليل ، وعندما اتى دوره دخل غرفة الطبيب وجلس امامه فسأله الطبيب عن الاعراض التي يعانيها، نظر لزوجته ثم نظر للطبيب ثم استغرق في الضحك وهو يقول للطبيب “قلبى يخفق بسرعة والعرق البارد يتصبب من رأسى.

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

التعليم ـ الرهبنة ـ الإدارة : محاور الأزمة ومداخل الإصلاح

كمال زاخرالإثنين 15 ابريل 2024ـــــ اشتبكت مع الملفين القبطى والكنسى، قبل نحو ثلاثة عقود، وكانت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.