الجمعة , مارس 29 2024
الدكتور إيهاب أبو رحمة

الاستقــالة لا تـزال في جـيبي!

د.إيهـــاب أبـــورحمه 

▪️منذ سنوات ليست بالقليله انتهت فترة نيابتي كطبيب تخدير في جامعه عريقه و كان بُداً أن أعود إلي وزاره الصحه مجبراً غير راغبٍ فيها و لكني كنت أخطط إلي السفر خارج البلاد لأسبابٍ عده و منها بالطبع تحسين وضعي المادي ، و بعد تردد قررت العوده لأيامٍ قليله فلقد كان بين يدي عقد عمل في دوله خليجيه و أعتقدت أنه بمجرد إمتلاكي لهذا العقد أصبح سفري حتمياً علي وزارة اللاصحه .

▪️ذهبت بالفعل لإستلام عملي بعد فترة إنقطاع زادت عن الخمسة عشر يوماً ، و أبلغت طبيباً كان له مكانه مرموقه والمسئول عن توزيع الأطباء في مديرية الصحه بأني لن أستمر طويلاً حتي يعيد ترتيب أوراقه و لا يعتمد علي بصوره أساسيه في هذه المشفي التي سيتم توزيعي عليها و بالفعل طمأنني بأنه سيجعلني في مستشفي جيد للولاده و قال لي مازحاً أني محظوظ لأني رابع طبيب تخدير في هذه المستشفي وأن هذه المستشفي استثماري أي أن لي مقابل مادي لكل حاله أعملها .

▪️بالطبع كان التوزيع عشوائياً معتمداً بالدرجه الأولي علي المعارف فكم من أصدقائي تم توزيعهم علي مستشفيات بجانب بيوتهم، في مستشفيات بها تكدس رهيب لأطباء التخدير في حين أنه ذهب بي إلي أدغال القري و أنا ابن المحافظه ، ولكني لم أبالي فقد وصل بي الأمر إلي الحلقوم و قرار سفري صدر دون رجعه.

▪️كان فرضاً علي أن أواجه تحقيقاً لإبداء أسباب تأخيري عن الإستلام و تحمل جزيه كانت في وقتها ٣٤٠جنيهاً وهي أكثر من راتب شهر والذي كان يبلغ٢٤٦جنيهاً فقط لاغير .
▪️صدقت الرجل في بادئ الأمر و لكني شعرت بالصدمه حين تم توزيعي علي مستشفي فخم رخامي من الخارج لايزيد عن كونه مزبله في داخله ، ولكني وجدت نفسي في وحده صحيه علي أكثر تقدير تحت مسمي مستشفي مركزي.

▪️وجدت فيها طبيب تخدير وحيد ولا يعرف حتي معني التخدير الكلي و يعمل بالتخدير النصفي فقط و أي مريضه تتحول من تخدير نصفي إلي تخدير كلي يتم نقلها سريعاً إلي أقرب مستشفي علي بعد نصف ساعه تقريباً ، ولم ينتهي الأمر فوجدت نفسي و قد تم توزيعي بالأنتداب إلي مستشفي قريب من منزلي (ولاده أيضاً!!) حيث فرض علي العمل في كليهما مناصفةً .

▪️لا أدري كيف لعباقرة الصحه أن يضعوا شخص مؤهل للعمل في العنايه المركزه و كل أنواع التخدير في مستشفي للتخدير النصفي في أغلبه ؟؟ و لماذا الإنتداب في المستشفي القريب من محل إقامتي و يتم إدراج إسمي كأساسي في مستشفي في أدغال القري؟؟ و لكنه بالطبع من باب تقدير الطبيب و احترامه و احترام خبراته و لإراحته كما تعودنا من هؤلاء القوم.

▪️ورغم أن مدير المستشفي كان علي أعلي درجات الإحترام و طلب مني أن أحاول الهرب سريعاً من هكذا حياه و طلب مني أن أتحمل جميع نوبتجياتي و ألا أحول الحالات خارج المستشفي أبداً طالما نستطيع القيام بواجباتنا و بالفعل وعدته بذلك و لكنه صدمني بأني علي أن أتحمل نصف الشهر كاملاً ، فسألته عن الكيفيه و أنا أتحمل عبء ٧ أيامٍ كامله نوبتجيات في المستشفي الأخر !!

فما كان منه إلا أن طلب مني الحضور فقط أيام عملي الصباحيه و أيام النوبتجيات أذهب إلي المستشفي في حال تواجد حالات و ألا أقيم فيها و أمام هذا هو يتحمل الحمايه من موظفي الصحه (و المقصود هذا الطبيب المخول له توزيع الأطباء) إلي أني كنت أواجه معاناة بمعني الكلمه فكثيراً كنت أذهب مراتٍ و مرات إلي هذا المستشفي البعيد في نفس اليوم و لما لا فقد وعدت مدير المستشفي ألا أتهرب من حالةٍ مهما كانت .

▪️بالطبع لن أتحدث عن الجانب الطبي الكئيب من نقص في الأجهزه ولا الأدويه ولا أحداث سيئه للمرضي و الأطباء لكني سوف أتحدث عن معاناة رهيبه لطبيب مواصلات عمله كانت تفوق نصف راتبه و كثيراً لم أجد مواصلات من الأساس في ليالٍ ظلماء كاحلة السواد لأعود إلي منزلي ،كنت أقفز في قطارات غير أدميه لأعود إلي بيتي لأستيقظ إلي عملي في المستشفي الأخر .

▪️لم تكن المستشفي الأخري والتي هي في قلب محافظةٍ عريقه أفضل حالاً عن شقيقتها فجميعهن من أمٍ واحدهٍ في حاله مترهله معدمه ألا وهي وزاره الصحه ، كان مدير هذه المستشفي يحتضن دفتر الحضور و الإنصراف دائماً وكأنهم في حالة عشقٍ غريبه ، وكانت المستشفي الكبير تملك غرفتي عمليات فقط ، سرير العمليات في احداها مكسور و الغرفه معطله لآجلٍ غير مسمي ، و كان هناك ٦ أطباء تخدير لماذا ؟ لا أعرف الإجابه حتي الآن.

▪️و كان هذا الطبيب (مختص التوزيع ) يمر ليلاً لا ليبحث حاجة المستشفي من نواقص و احتياجات (و بالمناسبه كان لدي أنبوبتين حنجريتين فقط يُعاد استخدامهما بعد غسلهما بالماء و الصابون) ، كان يمر و فقط للبحث عن حضور الأطباء من عدمه و بما في ذلك ال ٦ أطباء تخدير !!.

▪️وما أن أصبح عقد عملي جاهزاً قررت الإكتفاء بال ٢٧يوماً فقط في وزارة الصحه العظيمه ، و قررت التقدم للحصول علي اجازه عمل في الخارج رغم أن موعد سفري لم يحن بعد و لكني لم أتحمل أكثر من هذه الفتره الكئيبه من حياتي المهنيه.

▪️بالفعل ذهبت إلي طبيب التوزيع والذي كان (نمبر وان) في مديرية الصحه و صاحب القرار الأول و الأخير معتمداً علي إتفاقٍ مسبق بيني و بينه ، و رغم أنه رفض الموافقه علي اجازه زميل ما اضطره إلي الإنقطاع عن العمل ليسافر ليعمل خارج الديار ، ولكني كنت اعتقده رجلاً يتحمل وعده و يفي به كما نفعل جميعاً في صعيد مصر رغم كذبه علي في عدد أطباء التخدير في المزبله التي وزعني إليها .

▪️خاب ظني و وجدته متنصلاً من وعوده بالسماح لي بالأجازه و السفر متحججاً بنقص العدد و ضارباً لي المثل بزميلي الذي رفض منحه حقه القانوني في اجازة عمل للخارج ، و كان لا يعلم أن زميلي أنقطع بالفعل و سافر وبالفعل أبلغته أن ذنب هذا الصديق في رقبته ، و بعد أن اشتد الحوار صحت في وجهه كيف لي و أنا عائد من مستشفي جامعي نوبتجياتي لا تزيد عن ٨ و معي الكثير من صغار الأطباء أن اتحمل ٢٢ نوبتجيه ٢٤ساعه في الشهر الواحد ليرد علي بكل برود (الجامعه رمتك و احنا هنا لمناك وأنت بتاخد ٢٢نبطشيه ليه احنا بنحاسبك علي ١٢بس ) فاشتطت غضباً بأسلوبه و تعالت الأصوات فلم أكن أعرف من الأساس ماهو مفترض لي من نوبتجيات و سألته كيف لي أن أعمل عملاً إضافياً مجانياً فرد قائلاً(و لو مشلتهمش هتاخد جزا) فما كان مني إلا أن صحت مجدداً في وجهه بأنه نموذج حقير لموظف فاسد فاشل كاذب و أن المدعوه وزارة صحه لن ترتقي طالما أمثال هؤلاء يقبعون علي كراسي و يتحكمون في كريمة المجتمع كما كان يقول د.حمدي السيد النقيب السابق.

▪️و هنا أعلنت له أن استقالتي ستكون الحل و أن البقاء في حضرة هؤلاء مهزله و إنقاص من النفس و إهانه لمهنه كنت أظنها ساميه و خرجت من مكتبه وأنا أردد حسبي الله و نعمه الوكيل بأعلي صوتي.

▪️ذهبت اليوم التالي إلي المستشفي القريب و بعدها إلي دفتر الحضور و الإنصراف بين أحضان مديرها ، وجاء صوت لم أسمعه إلا مره واحده من قبل فإذا بمدير المستشفي يتسائل ماذا فعلت بالأمس يا دكتور مع دكتور فلان ؟ ورغم غرابة السؤال و الموقف ما كان مني إلا أن ذكرت له مقتطفات من حديث هذا الموزعاتي فكان رده لي إن قال هذا فهو يستحق ما فعلته أنت !!.

▪️شعرت بغرابة الموقف أكثر حين وجدت زملاء المستشفي يعرفون ما حدث و يحدثوني عن جرأه في موقفي معه و كانت عيونهم تلمع فرحاً و شماتةً في هذا الموظف الموزعاتي و هم يتسائلون كيف لي أن أفعل ما فعلت مع شخصٍ مثل هذا الذي يرعبهم جميعاً ولا أدري لماذا كانوا يعطونه أكثر من وضعه ؟، شعرت بتفاهة ذلك الرجل و كيف له أن يهين نفسه و ينشر هذه القصه للجميع غير أبه بمكانته التي ستهتز أمام الجميع !!.

▪️قررت الإستقاله و جهزتها ولكن أحد الأصدقاء نصحني بمحاوله أخيره للحصول علي اجازه ، و بالفعل قررت المحاوله للمره الأخيره مستخدماً بعض المعارف أصحاب الثقل و ذهبت ومعي إستقالتي وعقد العمل في يدي إلي مكتب وكيلة الوزاره شخصياً فما أن تفشل محاولتي الأخيره فقرار الإستقاله بين يدي و ينتهي الأمر.
▪️وكانت المفاجأه و دون أن أخبر وكيلة الوزاره عمن يرسل لها السلام وجدتها تسألني عن مطلبي فأخبرتها بالعقد الذي بين يدي فما كان منها إلا أن وافقت كتابياً و دون أي تردد.

▪️علم هذا الموزعاتي بقرار وكيلة الوزاره و أبلغ موظفي المديريه بإيقاف التنفيذ رغم أنه كان ذاهباً ليحج إلي بيت الله الحرام برحلات قافلات السبوبه المجانيه التي يتحصل عليها كبارهم ، ولكن دائما بسطاء الناس أرقي من هؤلاء المنتفعين فقام أحدالموظفين بالإسراع في إنهاء الاجازه طالباً مني الخروج سريعاً من المديريه حتي لا يراني هذا الرجل.

▪️وما أن سافرت حتي علمت بعدها بشهر علي الأكثر أن هذا الموزعاتي أصابه نزيف حاد من المعده وهو في مكتبه رغم عدم شكواه من أي أمراض مسبقه مات علي إثره في الحال .
▪️مات تاركاً جرحاً في قلبي و كره عميق لوزارهٍ هالكه ، مات و تسبب في معاناتي و غيري ، معاناه مازالت حتي الآن في تخليص اجازاتي سنوياً من أدغال القري ، مات و هو في عنفوان قوته و فوق كرسيه ، فلو علم ما هو مصيره لما عامل الناس بهكذا غرور.
▪️قبل سفري طلبت من أحد الأقارب استلام شيك ما تبقي لي من مستحقات ماليه عن ال٢٧يوماً التي قضيتها و كنت بالفعل استلمت راتباً قدره ٢٤٦جنيهاً و في انتظار الحوافز و النوبتجيات و التي كان متعارفاً صرفها كل ٣شهور فكان المتبقي تقريباً ٥٠٠جنيه فقط لاغير عن ٢٢ يوماً كاملاً من نوبتجيات مع الحوافز!.

▪️حتي الآن مازلت أحتفظ بإستقالتي بين أوراقي ، تذكرتها حينما قرأت تصريحات السيده وزيره الصحه برفض تمديد الأجازات للعاملين في الخارج ، ولا أدري كيف لهم الإعتقاد اليقين بأن الأجازات هي عائق السفر ، فلن يضحي أي طبيب براتبٍ واحد من غربته أمام احتفاظه بعمله في وزارة صحتهم ، فراتب واحد يعادل سنين ضوئيه من رواتبهم .

▪️أصبحت أملك اليقين التام أن سنواتي في وزارة الصحه معدوده و أنه يوماً ما لن أتردد في تقديم إستقالتي الورقه الصفراء التي عاشت كثيراً و أكثر من أعمار هؤلاء علي كراسيهم الزائله فكم وزيرٍ حارب لبقاء منصبه ولكنه زال و بقيت استقالتي كما هي.

▪️هل حقاً يعتقدون أن الحل في منع الآجازات مع استمرار هذا الوضع المزري للأطباء مادياً ؟هل حقاً يعتقدون أن إصلاح المنظومه المتهالكه يعتمد علي حضور ٦ أطباء تخدير في مستشفي بها غرفة عمليات يتيمه فقط مع ترك مستشفيات أخري خاليةٍ علي عروشها ؟ هل يعتقدون أن طبيباً في هذا الوضع اللا أدمي و عدد الساعات اللاأدميه و بدون تأمينٍ يذكر علي حياته من بلطجه بعض مرافقي المرضي قادر علي التكيف و الإستمرار ؟ .

▪️أصبحت مهنه مهانه لا قيمة لها فمن هان علي نفسه هان علي الجميع و لنتذكر أن الوزاره نفسها من طعنت علي بدل عدوي للأطباء الذين يذوقون الأمريين فيها ، نعم هي مهنه إنسانيه و هل هناك مهنه غير إنسانيه ؟ فالقضاء مهنه إنسانيه فهو المسئول عن العدل بين الناس و الشرطه مهنه إنسانيه فهي المسئوله عن أمن الناس و الجيش مهنه إنسانيه مسئولُ عن حماية الناس و الكهرباء والري مهن إنسانيه فدورها إنارة و إرواء الناس ، مهنه إنسانيه لكن ليس علي مصلحة إنسان أخر مهنه ساميه لو وفرنا الحياة الجيده لساميه نفسها .

▪️أبشروا فحتي شباب الأطباء بل طلبة كليات الطب الآن يسعون لهجره مبكره خارج مصر و لن يخسر من كل هذا إلا وطننا الحبيب مصر ، ناهيكم عن كم الإستقالات من الوزاره التي لن يبكي أحدنا علي حالها فقد أساءت لنا جميعاً و لم نلق منها دعماً قط.
🔻الإستقاله لا تزال في جيبي و أعلم أني سأقدمها عاجلاً أم أجلاً ، حال ظهر أحدهم في طريق رزقي ، و اعلموا أن حياة الغربه سينهيها كل طبيب بنفسه و لأسبابه الخاصه لا خوفاً من منع تجديد الأجازه فنار الغربه خيرٌ ألاف المرات من نعيم جنتكم .
#استقيمــوا_يرحمكم_الله.

شاهد أيضاً

يتساءل الجهلاء : أليس المحجبات مثل الراهبات؟

إسماعيل حسني الراهبة إنسانة ميتة، صلوا عليها صلاة الميت يوم رهبنتها رمزاً لمغادرتها العالم المادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.