السبت , أبريل 20 2024
مختار محمود
مختار محمود

مِحنة الإعلام الديني في مصر .

 

مختار محمود

صوتُ الباطل يبدو عاليًا وفاعلًا ومؤثرًا، في اللحظة التي يكونُ صوتُ الحقِّ فيها ضعيفًا ومُتخافتًا ومُتهافتًا ومُتخاذلًا. المعاركُ لا تُحسمُ بالنوايا الحسنة والقلوب الطيبة، ولكن تحسمُها الإرادة الصُّلبة والرغبة الصادقة والعملُ الجادُّ والجماعىُّ والدؤوب والمُخلص.

إدارة المعارك الحديثة بأدوات قديمة وأساليبَ عقيمة رجعيةٌ وسوءُ تقدير غير مبرر وغيرُ مقبول، ولا يجلبُ إلا الهزيمة وسوءَ المُنقلب.

 

أقولُ ذلك على خلفيةِ السِّجال المُحتدم منذ فترة غير قصيرة ولن يتوقفَ، بينَ صبيان أبي جهل وحمَّالات الحطب وكارهي الإسلام بالسليقة من جهة، وبين بعض المؤسسات الدينية في مصر والقائمين عليها من جهة ثانية.

 

الفريقُ الأولُ قد لا يبدو مُنظمًا، وأداؤه فرديًا، ولا قائدَ له، وعديمَ القيمة، ومُتهافتَ الحُجَّة، وتحركه أغراضٌ شيطانية، ولكنَّ ضرباته مؤثرة ولدغاته مؤلمة، وكتاباته مثيرة للجدل.

 

الفريقُ الثانى، بما يملكه من مواردَ لوجستية ومادية ضخمة، فضلًا عن نُبل الغاية والهدف يبدو ضعيفَ الحُجَّة غيرَ قادر على التبيان، مقطوعَ اللسان، قليل الحيلة، عديمَ الأثر والتأثير.

 

الأمرُ جدُّ عظيم، ويحتاجُ إلى حُسن تدبير ودقة تفكير بدلًا من ادِّعاء المظلومية والتشكِّى والدعاء على الخصوم بالويل والثبور وعظائم الأمور. دعونا نؤكدْ بكلِّ يقين، ودون إسهابٍ أو استرسال أو خجل أو مُواراةٍ، أن الإعلامَ الدينىَّ في مصر، باختلافِ أطيافه، مرئيًا كان أو مسموعًا أو مطبوعًا، حكوميًا كان أو خاصًا، يواجهُ مِحنة حقيقية تجعله بلا أنيابٍ، منزوعَ الإرادة، غيرَ قادر على المواجهة..

 

يخسرُ معركته من الشرارة الأولى، وإنْ طالتْ المعركة جولة أخرى أو اثنتين، فإنَّ الخسارة هي المصيرُ المحتومُ أيضًا، وإنْ تمكنَ من المقاومة أكثرَ وحسمَ المعركة في النهاية، فإنَّ نجاحه يكون مُتداعيًا وأقربَ إلى الهزيمة والانكسار، وفضلًا عن ذلك كله، فإنَّ التأثير الإيجابى للإعلام الدينى في المجتمع يكادُ يصل إلى حد العدم، نعم.. العدم.

 

الإصداراتُ الدينية الصادرة عن المؤسسات الصحفية الحكومية وُلدتْ من البداية ميتة، بلا فكر أو روح، بدتْ وكأنها “مُجرد ديكور”، أو من لزوم ما يلزم، حتى أنَّ كثيرين من المواظبين على قراءة الصحف الورقية، لا يعرفون أسماءها، كما إنها تحولتْ إلى بابٍ خلفىٍّ لمرور ضعاف المُحررين إلى مهنة الصحافة، أو مُستودع للمُنخَنِقَة والمَوْقُوذَة وَالمُتَرَدِّيَة وَالنَّطِيحَة وَمَا أكَلَ السَّبعُ.

 

أمَّا الإصداراتُ الصحفية الصادرة عن جماعاتٍ أو جمعياتٍ دينيةٍ، فخاصمتْ الصحافة منذ العدد الأول، وتحولتْ سريعًا إلى نشراتٍ ودورياتٍ جوفاءَ، لا يشعرُ بها إلا أصحابُها والعاملون فيها، أو خطبٍ منبريةٍ مكتوبةٍ معزولةٍ عن الواقع، وتعبرُ عن فكر القائمين عليها فقط، غير قابلة لأية أفكار أخرى، وتُعمِّقُ الخلافاتِ، وتثيرُ الفتنَ، وتوسِّعُ دائرة الاستقطاب والطائفية، فانطفأتْ مبكرًا قبلَ أنْ تُضئ، وكان بعضُها أيضًا نفقًا مُختصرًا لإلحاق المئاتِ بجداول نقابة الصحفيين ظلمًا وبُهتانًا وإثمًا مبينًا.

 

وفيما يتعلقُ بالإصداراتِ الصحفيةِ الصادرة عن مؤسساتٍ دينيةٍ راسخةٍ وشامخةٍ، نظنُّ بها خيرًا، فإنَّ حالَها لم يكنْ أفضلَ من غيرها، رغم أنها الطرفُ الأصيلُ في المعركة المُحتدمة والحرب المُستعِرة، فضلًا عن امتلاكها الدعم المالى الذي لا ينفد، وتفتقده جميعُ المؤسسات الصحفية الخاصة وبعضُ المؤسسات الحكومية!!

 

هذه الإصداراتُ منذ أبصرتْ النور لم تكنْ على مستوى الحدث، ولم تُعبِّر عن نفسها إزاءَ طوفان الأباطيل والتجاوزات بحق الإسلام تارة، والمؤسسات الدينية ورموزها تارة أخرى، وبدتْ مُنكسرة وكأنها ليستْ صاحبة الحقِّ، كما أنها تقاعستْ عن أداء دورها الأصيل في رفع وعى مجتمع تسودُه تنويعاتٌ متجددة لا تنتهى من السلوكيات الشائنة والقبيحة التي تصطدمُ مع الدين والعُرف والأخلاق، وأصبحتْ بلدُ الأزهر الشريف تتصدر قوائم التصنيفات غير الأخلاقية.

 

الضعفُ المهنى الذي يعترى هذه الإصدارات ويتوطُّنها ويتوغلُ في أوصالها، وامتدَّ بطبيعةِ الحال إلى بواباتها الإلكترونية، يُغرى دائمًا أهلَ الباطل لأن يواصلوا افتراءاتهم وتجاوزاتهم وسخافاتهم، ويُشعرُهم بالزهو والنصر، حتى لو كان نصرًا زائفًا أو كاذبًا.

 

ما تقدمَ يجعلنا بصدد ضرورة إجراء “مراجعة نقدية” تفتحُ أمامنا سُبلًا جديدة لتطوير مُنتجات “الإعلام الديني”، بما يُعزِّز القيمَ الجوهرية للإسلام، ويُعمِّقُ روحَ المُواطنة والتعددية الدينية والثقافية، وليسَ الاستمرارَ في الانغلاق والانكفاء وتنميةِ الخلافات بين أتباع الدين الواحد وأحيانًا المذهب الواحد، أو مع الآخر، وبما يخلق حائطَ صدٍّ منيعًا أمام قوى الشر وأصدقاء إبليس في الداخل والخارج.

 

أعلمُ أنَّ أصحابَ العمائم وكبارَ الأكاديميين الدينيين الذين يفرضون وصايتهم وسيطرتهم ونفوذهم على الإصدارات الصحفية والفضائيات الدينية، بحُكم تداخلاتٍ وتشابكات مُتعددة ومصالح لا تنتهى، يرون أنفسَهم أكبرَ من أي نقدٍ، وفوقَ كلِّ انتقاص، ولكنَّ المصلحة العليا تقتضى منهم- إن كانوا صادقين وأظنُّهم كذلك ولا نُزكِّى على اللهِ أحدًا- أن يُغلِّبوها على مصالحهم الضيقة.

 

علماءُ الدين يفقهون في الدين فقط، ولا يجبُ أنْ يتوهموا أنهم يفهمون في كلِّ شيء: في السياسة والصحافة والاقتصاد والفن، هذا وهمٌ، إنها ديكتاتورية بغيضة، وذاتية مُنفرَة، ووجودُ أصحاب العمائم ضمن الهياكل الإدارية للإصدارات الصحفية والفضائيات الدينية يعتبرُ أقوى عوامل التدمير الداخلي والذاتي لها، باختصارٍ شديدٍ.. إثمُهم يومئذٍ أكبرُ من نفعهم.

 

الإعلامُ الدينىُّ يجبُ أنْ يغادرَ أنفاقه المُظلمة وجحورَه الضيِّقة، وآفاقه العقيمة، إلى آفاقٍ أرحبَ وأوسعَ، ويتجاوزُ الدروسَ الوعظية والتربوية أو الخطب والمحاضرات المُكررة والقديمة والعقيمة، وينفتحُ على مجالات الشأن الإنساني بما يخدمُ الفردَ والمجتمعَ ويرتقي بالسلوك البشري، ويُعظِّم القيمَ الإنسانية الجامعة، ويخدمُ الصالحَ العام، ويعالجُ الجوانبَ المدنية والعلمية والثقافية والفنية.

 

أولُ نقدٍ يمكنُ أن يُقدَّم لواقع كثيرٍ من الإعلام الديني في مصر هو: السطحية والاستقطابُ والطائفية والانجذابُ نحوَ أجنداتٍ سياسيةٍ، ومصالحَ تجاريةٍ تسعى إلى استغلال سذاجة المُخاطَبين وعواطفهم، وقبلَ كلِّ ذلك وبعدَه غيابُ المهنية بشكل لا تخطئه عينٌ، ولا ينكرُه مُنصفٌ، ولا ينفيه عاقلٌ.

 

ينجحُ الإعلامُ الدينيُّ في تحقيق رسالته عندما يستنطقُ المعاني الجوهرية لِلدِّين، وينطلقُ من فكر إصلاحيٍّ حضاري يستوعبُ التحدياتِ الراهنة، وينتقلُ بالعقل الجمعيِّ من الارتهان بالماضي إلى فقه الواقع، ومن القطعيّة العقَدِيّة إلى النسبية الاجتهادية، ومن ازدراء الحياة الدنيا والتحذير منها إلى تعميق معاني الحياة والابتهاج بها.. بحسب الكاتب الأردنى “عامر الحافى”.

 

الانتقالُ من الخطاب الديني العاطفي والإعجازي إلى خطابٍ إنسانيٍّ واقعيٍّ يستوعبُ احتياجاتِ الإنسان وهمومَه المُعاصَرة، يمثلُ ضرورة مُلحَّة من شأنها أن تُسهمَ في إعادة الثقة بالخطاب الديني من ناحية، والارتقاء بمضمون الإعلام الديني من ناحيةٍ ثانيةٍ.

 

على الإعلام الديني أن يُعمِّقَ اهتمامَه ببناء المجتمع الإنساني المُعاصر، من خلال التركيز على حقوق الإنسان، والمواطنة، والديمقراطية، وإعلاء قيمَتَي الوحدة والعدالة الاجتماعية، والانفتاح على جميع الأفكار واستيعابها، ليس عبر خطابٍ تراثىٍّ فجٍّ أو غليظٍ أو مُنفِّر.. “ولو كنت فظًا غليظَ القلب لانفضُّوا من حولك”، ولكنْ عبرَ آلياتٍ وأدواتٍ تناسبُ من يتمُّ استهدافهم من هذا الخطاب، وتواكبُ العصرَ الذي نعيشه، وليس زمن أهل قريش ويثرب والأوس والخزرج.

 

مشايخَنا الكرام، لا تأمروا الناسَ بالبر وتنسوَن أنفسَكم، تطلبون منا أن نسأل أهلَ الذكر إذا كنا لا نعلمُ، وأنتم تعتبرون أنفسَكم أهل َالذكر في الصحافة والإعلام، وأهل الحلِّ والعقدِ في كل شيء، تُحرِّمونَ الواسطة والمحسوبية، وأنتم تحشدون في صحفكم وفضائياتكم صبيانَكم وصغارَكم وفتيانَكم وفتياتِكم ومن تضمنون منهم السمع والطاعة ومواليكم، فيتحققَ الفشلُ الذريعُ..

 

وما هكذا أبدًا تُوردُ الإبلُ، ترفَّعوا وارتقوا واضربوا القدوة الحسنة والمثلَ الأعلى في كلِّ شيء، فالتحدياتُ صعبة وعظيمة ومُتنامية، وتستدعى التضحية ببعض المكاسب والمكتسبات لوجه الله تعالى..

 

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

لوبي باراباس الجدد ..!

لماذا لم يفكر هؤلاء الاشاوسه في نشر فيديوهات للأسقف مار ماري عمانوئيل ضد المثلية والبابا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.