الثلاثاء , أبريل 16 2024
البابا كيرلس الرابع
البابا كيرلس الرابع

البابا كيرلس الرابع رائد الإصلاح القبطي في مصر (1854-1861م)

د. ماجد عزت اسرائيل

ولد داود توماس بشوت داود سنة (1532ش/1816م) في قرية الصوامعة الشرقية من مديرية جرجا في مصر العليا (الآن تابعة لمحافظة سوهاج) وكان اسمه داود،وكان والده مزارعًا معروفًا بين قومه بالسذاجة وسلامة النية، وكان أمّيًا لا يعرف القراءة والكتابة ولكنه لم يغفل عن تربية ولديه وهما داود ويوسف، فعنى بتعليمهما بإرسالهما إلى الكتّابِ حيث درج أولاد القبط على التعليم، فتعلما القراءة والكتابة في اللغتين العربية والقبطية ومبادئ الحساب.

ولما أكمل داود تعليمه على قدر ما سمحت به مدارس تلك الأيام عكف على مساعدة والده في أعماله الزراعية، فكان يقضي يومه بين المزارع والمراعي في الأعمال الخشنة فنما جسمه وتشددت عضلاته، وعندما بلغ أشده اختلط بالعربان المجاورين لقريته فتعلم منهم ركوب الخيل حتى صار يراكبهم ويسابقهم ويرافقهم في أسفارهم في الجبال والبراري والصحاري وألفِ كثيرًا من الطرق الصحراوية حتى أنه لم يحتاج إلى دليل يرشده إلى طريق الدير عندما أراد الرهبنة.

وقبل أن ينخرط داواد في سلك الرهبنة كان لا يهمه شيء من أعمال الدنيا، ولم يكترث بعمل من الأعمال العالمية، وكأن العناية الإلهية حفظته لخدمة لا يقوم بإعبائها إلا قليلون من بني الإنسان.

على أيه حال، عندما بلغ الثانية والعشرين من عمره ترك بيت أبيه وفارق الأهل والأصحاب وأتجه إلى دير القديس الأنبا أنطونيوس بالصحراء الشرقية، وصار من غير مرشد لأن نجمه الهادي كان يسطع في داخله؛ وكان الدير آنذاك تحت رئاسة القس أثناسيوس القلوضي (نسبه إلى قلوضا بلد تابعة لمحافظة المنيا) ومن المؤلم أن أباه حاول قدر المستطاع أن يرجعه عن عزمه ولكن المراحم الإلهية آزرته وأبقته لخير الأمة القبطية بأسرها، وقد احتفظ باسمه الأصلى “داواد”.

وبعد رهبنتة لم يلبث أن ذاعت شهرته بين الرهبان بالذكاء والتواضع ودماثة الأخلاق والهمة والنشاط؛ لدرجة توليه رئاسة الدير في أثناء سفرالقس أثناسيوس، فيتولى تدبير شئون الدير ويجمع الرهبان في وقت محدد لكى يقرأ لهم ويشرح ما صعب عليهم، وانعكست محبته لهم بمحبتهم له.

وبعد أن انتقل القس أثناسيوس إلى الإمجاد السماوية أجمع الرهبان جميعًا على انتخابه رئيسًا لهم، وحينما سمع الأنبا بطرس الجاولي البطريرك رقم “109” (1809-1852م) بفضائله والإجماع على اختياره استدعاه ورسمه قسًا باسمه “داود” وزوده بالنصائح الأبوية ليتولى شئون الدير.

واندفع القس داود بغيرته الروحية إلى إعداد كل ما يحتاج إليه الرهبان كي لا يجد أحدهم عذرًا في مغادرة الدير، وقرر أن لا يبقى بالعزبة التابعة للدير ومقرها بوش (مدينة تقع شمال محافظة بني سويف، وتعرف الآن باسم مركز ناصر) غير الرهبان القائمين بأعمال الزراعة.

وفي عزبة دير بوش وجه عنايته إلى الاهتمام بالرهبان القائمين على الزراعة وتعليمهم؛ فانشأ كتابًا ومكتبة تحتوي على العديد من الكتب النادرة، وسمح لأهالى بوش بالتعليم مجانًا لمن يرغب، وكان أحيانًا يقوم بالتدريس بنفسه في بعض الموضوعات الدينية والأدبية والتاريخية.

وبين عشية وضحاها ذاع صيت القس داود بين الرهبان في دير الأنبا أنطونيوس بالصحراء الشرقية ودير العزبة ببوش بغرب النيل، فنال رتبة القمصية، وقد كان نورًا تنبعث منه أشعة الفضيلة والقدوة الحسنة في سائر المسكونة وأجمع الجميع على اختلاف المذاهب على حبه واحترامه ومشاورته في مهامهم.

وعندما تلاعب الإنجليز بسلامة الكنيسة القبطية في بلاد الحبشة وفشلت رسائل البطريرك بطرس الجاولي (البابا 109) وأصبحت الحاجة ملحة لأيفاد أحد الآباء لاحتواء الأزمة رشحه البطريرك لهذه المهمة الدولية، وقبل داود ولكنه طلب من البابا أن يرافقه السفر أحد الرهبان ويدعى برسوم (صار بعد ذلك نيافة الأنبا يؤانس أسقف المنوفية)، وودعه البطريرك عام 1851م في مشهد مهيب وقال له: “أنك إذا أديت هذه المهمة على وجه مرضي تنال فيه نصيبًا صالحًا عند عودتك مكافاة لك”.

وفي بلاد الحبشة قضى القمص داود ورفيقه برسوم ما يقرب من 16 شهرًا، واستطاع بالحوار والمناقشة والنقد البناء ما بين مطران الحبشة والكهنة والشعب إلى أعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه ورجع الحب والسلام إلى الكنيسة في الحبشة.

وفي أثناء مهمة القمص داود في الحبشة تنيح البابا بطرس الجاولي “البطريرك 109” في عام 1852م، وتم ترشيح داود ليخلف البابا، ولكن ظهرت معارضة شديدة ربما لصغر سنه أو لأفكاره المتطورة؛ التي كان يتبعها لتطوير الكنيسة ووضعها في طريق الحداثه، ولاحتواء الأزمة تم الاتفاق على رسامته أسقفًا عامًا ليتولى إدارة شئون البطريركية، وبعد 14 شهرًا اجمع الشعب القبطي والأساقفة على أختياره و تزكيته للكرسي البابوي، وتم رسامته باسم كيرلس الرابع؛ وبعدها أصدر والي مصر سعيد باشا في يوم الأحد الموافق 28 بشنس 1570ش/4يوليو 1854م قرارًا بتولي البابوية ليصبح البابا رقم “110”.

كان التعليم على رأس أولوياته، فقام بإنشاء العديد من المدارس منها بالبطريركية وحارة السقايين (عابدين )، وأسس مدرسة للبنات وأقتصر التعليم فيها على دراسة اللغة القبطية والعربية والإنجليزية والفرنسية والحساب، وعندما ذاعت شهرة هذه المدارس أرسلت الطبقات العليا أبناءها وأصبح هولاء الخريجين هم القوى العاملة والقادة في الدولة أواخر القرن التاسع عشر.

ومن أجل الحداثه والإصلاح أنشأ المطبعة التى قام باستيرادها من النمسا على نفقة الكنيسة القبطية للمساهمة في طباعة الكتب التي تحتاج إليها المدارس التي أنشأها، وطبع النشرات والقرارات البابوية والمقالات والتقارير.كما اهتم ببناء وترميم وعمارة الكنائس؛ فقام باستكمال الكاتدرائية المرقسية (بكلوب بك) بالقاهرة، وترميم بعض الكنائس في مصر القديمة وحارة الروم وسائر أرجاء المسكونة.

ويرجع إليه الفضل في إدخال فكرة تعداد السكان الأقباط عن طريق التزام الكنائس بتسجيل عدد المواليد والوفيات بسجلات الكنائس، وعن طريقها يمكن الحصول على التعداد العام للأقباط، وحساب معدل الزيادة الطبيعية (الفرق بين عدد المواليد والوفيات)، ودراسة الحراك الإجتماعي للأقباط (الهجرة الداخلية)، ومعرفة الكثافة السكانية لهم (مناطق تمركزهم وندرتهم) لكي يتسنى له توفير الكهنة والأسقفة والمطارنة لخدمة هذا الشعب.

ومن دواعي الحداثة أنشائه إدارة مالية لتمويل هذه المشروعات؛ فأعاد تنظيم إدارة أملاك (أوقاف ) الكنيسة بتسجيل الأراضي الزراعية ومعرفة مساحتها، وتسجيل العقارات والمحلات التي أوقفها أصحابها، وأنشائه إدارة المصروفات والإيرادات.

وبرز دوره الوطني عندما استدعاه والي مصر سعيد باشا (1854-1863م) بصفته بطريركًا لمصر وأثيوبيا لأرساله في بعثه إلى بلاد إثيوبيا ليوقف الاعتداءات البريطانية على الأملاك المصرية، وقضى من أجل ذلك سنة ونصف وأستطاع تحقيق أحلام الوالي.كما أتصف البابا كيرلس الرابع بروح التسامح والتصادق مع الطوائف المسيحية، ولا سيما الأرمنية واليونانية.

ولكثرة إنجازته وغصلاحاته في شتى مناحي الحياة عُرف البابا كيرلس الرابع لدى الكتاب والمؤرخين بـ”أبو الإصلاح”.

وفي يوم الأربعاء الموافق(30يناير1861م) أنتقلت روحة الطاهره إلى الأمجاد السماوية بعد حياة مليئة بالجهاد والتعب الروحي، وهو لا يزال في سن السادسة والأربعين، كما لم يسدل الستار حتى كتابة هذه السطور عن البحث عن أسباب و فاته لأنها كانت غير طبيعية.

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

التعليم ـ الرهبنة ـ الإدارة : محاور الأزمة ومداخل الإصلاح

كمال زاخرالإثنين 15 ابريل 2024ـــــ اشتبكت مع الملفين القبطى والكنسى، قبل نحو ثلاثة عقود، وكانت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.