الجمعة , مارس 29 2024
المهندس محمد توفيق جاد الله القباحى

الحلقة الخامسة…كورونا رأيت وسمعت

محمد توفيق جاد الله القباحى

بعد أن أتمننا العمل في وزارة الصحة , وأنسحب  المغسولون , وتم تدول تليفوناتنا  نحن – المغسلين – على الفيس بوك , وتفاعل الناس مع جروب التغسيل , في هذا التوقيت زادت حالات الوفيات وكنا في شهر رمضان  الكريم , بدأت معانا  مواقف  الغسل في كل مكان .

ذات يوم في الفجر  رن جرس التليفون , وبعد رد السلام وعرفني بنفسه , قال : إن لديه متوفى كورونا , قلت له : هل معكم تصريح  ؟ قال : نعم , قلت له : هل مكان الغسل جاهز؟ قال :  نعم جاهز من كل شيء , ولكن من كلامه توجست خيفه , قلت له : هل أنت في مكان الحالة ؟ قال : لا

قلت يا سيدى لو سمحت  دع  أحد قريبا من المتوفى يتواصل معي للضرورة , هل لديكم كفن ؟. قال : نعم يوجد لدينا كفن , قلت له الساعة السابعة صباحا سوف اكون عندكم , اتصلت بالمغسل الرئيسي  قلت له  الساعة السابعة  صباحا نتقابل , صليت الفجر , ونزلت خلسه من العمارة التي اسكن فيها , حتى لا يراني أحد , لو أن أحد السكان راي السيارة او رآني أخرج في هذا الوقت ربما  يقول في نفسه : ذاهب الى غسل  ميت كورونا , وسوف يأتي إلينا بالعدوى والمرض , ولذلك عندما كنت اتحرك للغسل لا اقول لأى شخص انى ذاهب الى الغسل , .حتى في البيت عندي , اقول لهم إني ذاهب الى مشوار,

ركنت سيارتي في مكان بعيد قليلا  عن مكان الوفاة .

وكنت قد اخذت كل مهمات الوقاية معي , وكنت منذ زمن اشتريت بخاخه يتم رش الاشجار والزروع بها , فأخذتها معي بعد ان وضعت فيها ماء وكلور ,

واخذت كميه من الكحول في عده زجاجات , لأنى كنت افضل الكحول عن الماء والكلور , لأن الكلور ورائحته  كان يسبب لي  شيئا من القلق.

محمد توفيق جاد الله القباحى

كان  المغسل الرئيسي  لم يصل بعد , وجدت النساء تصرخ والرجال صامتون  جالسون متفرقون حول منزل المتوفى في أماكن مختلفة,

وصل المغسل الرئيسي وكان مستعجلا كالعادة يريد ان يغسل ويمضى تقابلنا خارج منزل الميت ,

وعندما رأتنا النساء ومعنا اكياسنا التي نحمل فيها مهمات الوقاية , بدأت الحريم تصرخ وبقوة , وتقول ليس فيه  شيء , لقد مات موته طبيعية , لأنهم كانوا يعتبرون وفاه كورونا فيها نوع من العار أو نوع من المهانة أو تقليل من شأن الميت , أو أن ميت كورونا ده شيء مشين لا يصح أن يقولوا إنه ميت كورونا .

تكبر الناس علي الوباء فتكبر علينا الوباء , أنا سمعت الصراخ وما تقول تلك السيدات وزاد القلق لدى , همس لي صديقي المغسل الرئيسي عوزين نغسل ونمشى على طول ,

وأنا في الخارج اتصلت بالتليفون الذى كلمني عند الفجر لم يرد

كل التليفونات لم ترد , واصبحت  في موقف عصيب لا ندرى ماذا نفعل هل ندخل ونقول نحن  المغسلون  في هذه الظروف ,

بعد قليل رن علينا التليفون وطلبت منه أن يأتي إلينا خارج مكان الجنازة , فظهر لنا من وسط زحام الناس وقال : تفضلوا . ومشى معنا إلي أحد المنازل , ووجدت  رجالا جالسين في صمت  والحريم تصرخ في الخارج , فقلت : إننا نريد مكان الميت لكى نغسل , قالوا : لنا تفضلوا أولا , شكرتهم وقلت لهم : نحن نريد مكان  الميت لكى نغسل

كورونا

فقال أحدهم إن التصريح ( تصريح دفن الميت في المقبرة) لم ينته بعد  , فقلت : لهم سوف نغسل نحن والتصريح يأتي بعد ذلك. وعرفتهم أن مفتش الصحة متعاون وليس هناك مسؤولية عليهم وعلينا , وعرفتهم أننا أخذنا  دورات  تدريبة في مديرية الصحة أننا نتعامل مع المتوفى بكورونا .

فقال أحدهم : إنه توفى طبيعيا , رغم أنى قرأت في عيونهم جمعيا الشك وعدم تصديق ما يقولون , دخلنا مكان الغسل كان مكانا ضيقا , لا يوجد كفن رغم تأكيدهم  أنه يوجد كفن  وطلب منا أحد الشباب الواعي المثقف أن يحضر الغسل , فطلبت منه ان يلبس كمامة وجوانتى وأعطيته ما يريد من مهمات الغسل , ولضيق المكان أخرجنا كل أثاث المكان خارج الحجرة التي نغسل فيها , وأخرجنا كل من كان معانا ولم يستطع أن يمسك نفسه من الحزن  والبكاء, وغسلنا الميت ثلاث غسلات ,

وضوء بعد التنجية , غسل ماء بعد ذلك , بعده غسل ماء وصابون  بدأنا  من الجانب الأيمن ثم الأيسر , ثم الغسل النهائي بماء وزيت كافور , ولكن لا يوجد كافور ولا كفن , فطلبنا ورق سدر ( بالبلدي ورق شجر النبق )  ووضعنا ورق السدر في ماء الغسل , وتم الغسل في تلك الظروف بعد أن أخذنا وقتا في جلب الكفن من مكان بعيد , وغسلنا الميت وعقمنا أنفسنا في مكان الغسل برش الماء والكلور بواسطة بخاخة الزروع , وقلنا لهم : هذا ميتكم جاهز أول ما يطلع التصريح  اذهبوا  به  الجبانة ( المقابر بالبلدي) وادفنوه , وذهبت مسرعا الي بيتي  حتى لا يراني أحد وأنا عائد الى منزلي في هذا الصباح الباكر , فيعرف  أنى   كنت أغسل ميت كورونا  فيخاف أن يتعامل معي , وحضر معنا الغسل هذا أحد المغسلين الجدد , وكان متحمسا وفرحا  ولكنه طلب عدم ذكر اسمه , حيث قال : لي إنه يغسل بدون علم زوجته وأهله كلهم رغم أنه يسكن معهم , فقلت له : هذا لا يصح فقال : أنا واخد كل احتياطاتي  لكى لا يعرف أحد .

وبعد ذلك هذا المغسل اختفى من الغسل تماما ولم يظهر مره أخرى . بعد أن أعطى مهمات الوقاية لأحد الأشخاص من الذين كانوا معنا , كان هذا الغسل من أوائل حالات التغسيل التي تعلمت فيها ممارسه الغسل مع  المغسل الرئيسي وتحمل مسئولية الغسل بالكامل وأن تترك الميت في أفضل حالاته من التغسيل كذلك تتركه في أفضل حالة من التكفين ,

واستمر مسلسل الغسل بعد ذلك. حيث إتصل أحد الأشخاص عن طريق التليفون , وقال : إنه توجد حالة غسل في مكان قريب , وكررت عليه ما كنت أقوله في كل  مرة لأي شخص يتصل  بي ,

هل التصريح والكفن ومكان الغسل والمغسلة التي نغسل عليها جاهزة ؟ فأكدوا أن كل شيء جاهز , وفعلا ذهبنا الى مكان الغسل كان كل شيء جاهز, ولاحظنا أن عدد الناس قليل حيث بدأ الخوف يظهر على كل الناس , الخوف من ميت كورونا والخوف من العدوى  وكثر الكلام والفيروس غير معروف جعل الناس في خوف وحيرة وفى هذا الغسل كان كل شيء مضبوط , وكل شيء جاهز , وكان هذا الغسل هو الغسل الوحيد الذى اجتمع فيه كل فريق بلدتي من تغسيل ميت كورونا لأول مره , ولم نجتمع بعد ذلك  على أي غسل , بل ولم نر بعضا بعد ذلك  مجتمعين ,

كنا ثمانية او سبعة مغسلين ميت كورونا . كلنا معنا مهمات الوقاية ومتحمسون لذلك انا توليت رشهم بالماء والكلور بواسطه بخاخة الزروع , وكنت  متواجداً معهم الاحظ ماذا يفعلون ؟ بعدها طلب اصحاب الميت الصلاة في مكان فسيح امام منزل الميت مباشره , وكان عددنا قليلا لان الناس كانت مرعوبة حتى عندما ذهبنا الى الجبانة لم يمش وراء الجنازة إلا عدد قليل , وفى هذا الوقت بدأ الفحارون ( الاشخاص الذين يقومون بدفن الميت داخل المقبرة أو الفسقية ) في عدم الخوف من تلحيد الميت في المقبرة والنزول مع الميت ووضعه تجاه القبلة .

وهنا أيقنت ان مبادرتنا في تغسيل وتكفين وتلحيد ميت كورنا قد كان لها دور ايجابي في إزالة الخوف منهم .

ولكن اهل الميت اختلفوا بعد الدفن لان بعضهم لم يحضر الوفاة . خوفا على انفسهم من العدوي , وعرضوا علينا اموالا في مقابل الغسل . فقلنا لهم : أن هذا العمل لوجه الله تعالى .

والحمد لله  تم هذا الغسل بسهولة ويسر عن الغسل السابق وقلت في نفسى سوف استريح بعد هذا الغسل  , لأن رمضان سهر بالليل وغسل بالنهار ,

فقلت : فرصة انام قليلا , ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان ,

حدث إتصال من أحد الأشخاص وقال : يوجد متبرع بمهمات وقاية ولابد أن أذهب بسيارتي آخذها منه في موقف السيارات ,

يا إلهي ! بعد هذا التعب سوف لا  أنام بل وأقود السيارة إلى موقف سيارات الأجرة لكى اخذ مهمات الغسل ؟ ! كان الوقت قد إقترب من التاسعة صباحا , ورن التليفون المحمول من المغسل الرئيسي , إنه توجد حالة وفاة في المستشفى البعيد الذى ذهبت إليه في الليل قبل ذلك , وطلب منى أن يذهب أحد للغسل , لأنه متعب ومنهك , ولكن كل المغسلين من الانهاك والتعب ناموا , ولم يرد أحد على تليفون لي , كل أعضاء الفريق ناموا ولم يجيبوا على اتصالي بهم  , فاتصلت بالمغسل الرئيسي قلت : سوف تقوم أنت بالغسل وأنا سوف أذهب معك بل قلت له : سوف أذهب اليك بالسيارة ونذهب مع بعض إلى المستشفى بسيارتي بدلا من الموتوسيكل , ووصلنا إلى باب المستشفى وبمجرد أن نظروا الى السيارة فتحوا الباب لنا مباشرة.

لأن السيارة قد اشتهرت بسيارة كورونا , ودخلنا إلى المشرحة لكى نغسل الميت . ولكن المفاجأة . لم أر أحد من أقارب الميت أمام المشرحة كالعادة حتى وإن كان العدد قليلا كنا نجد بعض الأشخاص , ولكن هذه المرة لم نجد احداً تماما وكأن الميت أتى لوحده ودخل المستشفى لوحده , ودخلنا الى المشرحة , ووضعنا الميت على المغسلة بتعاون من أمن المستشفى معنا . وغسلنا الميت على اكمل وجه ,

وخرجت خارج المشرحة وناديت في كل الموجودين أين أهل الميت وكان بعض الأشخاص على مسافه بعيده قليلا من المشرحة .

فخرج الينا شاب نحيف قصير , يلف كل رأسه بغطاء رأس كبير ( شال بالبلدي  او تلفيحه) من كل مكان , ويلبس نظاره أي لم يظهر منه شيء , بل وأتضح لي أنه تحت غطاء الرأس هذا يلبس كمامة ايضا , ويلبس جوانتى ايضا , يا للهول كل هذا الخوف !

ووقف على مسافه بعيده منا تقترب من ثلاثة امتار , فقلنا له : هل سوف تأخذ الكفن صدقة أو تدفع تكلفته ؟ فأخرج تكلفة الكفن من محفظته , واقترب مني بكل خوف وأعطانا تكلفة الكفن بأطراف اصابعه , فقلت له : لا تخف  لا يوجد شيء فطلب رشة بالكحول على يديه  وفجأة رن جرس التليفون ونحن نستعد لمغادره المستشفى  انا ومعي  المغسل الرئيسي وكان على الطرف الآخر صديقي المغسل الذى غسلت معه اول حالة كورونا من قبل ,

قال لي : توجد حالة ميت كورونا في المستشفى . قلت له : نعم . قال هذه الحالة تخصني من البلد عندي فاهتموا بالغسل والناس. إياكم أن تتركوهم لوحدهم ,  

فقلت له : حتى الغسل في واسطه يا حج ارحمنا شويه  , وانا  ابتسم قليلا, فقلت له : لقد تم الغسل على اكمل وجه فشكرنا  وأنهى المكالمة  وبعد قليل رن مره اخرى وطلب التعاون مع الناس المرافقين للميت واحضار كرب لهم وعربة نقل موتى وأن نقوم معهم بالواجب ونكرمهم ,

فقلت له  مستنكرا  , بعصبية : انت كل شويه تقول ناس ناس اين هؤلاء الناس ؟ فقال : الذين مع حالة الوفاة , فقلت له : لا يوجد أحد مع الحالة إلا شاب نحيف خائف من التعامل معانا  وخائف يكلمنا وكأننا الفيرس نفسه . ويكلمنا وكله خوف ورعب ويمسك الفلوس والتليفون بأطراف اصابعه فاين الناس الذين تقول عليهم ؟  فبهت من كلامي ولم يصدقني فأعطيت التليفون للشاب فمسك التليفون بأطراف اصابعه , وأكد له أنه لوحده وليس معه أحد وسوف يتولى نقل الميت الى بلدته لوحده ,

سبحان الله ! ميت لا يوجد معه احد الا فرد واحد ! يعنى لو ذاهب إلي المقابر سيرا على الاقدام لن يجد احداً يحمل معه الكرب , وهنا ايقنت انه هروب من الميت كما يفر المرء يوم القيامة من اقاربه ,

وتركناه وذهبنا حيث طلب سيارة من بلدته لكى تحمل الميت ,

وعرفت فيما بعد أن صديقي المغسل قد قام بحمله هو وشخص اخر فقط في بلدته عندما  ذهبوا به للدفن فى المقابر وأن كل الناس كانوا  يقفون من بعيد ولم يحملوا  الكرب ووقفوا بعيداً من  حول المقبرة حتى تم التلحيد والدفن . وقال لي : لقد حملته لوحدي ولحدته لوحدي ودفنته لوحدي ولم يساعدني أحد .سبحان الله : في هذه الكورونا التي تعطينا العبر والعظات كل يوم يمر علينا ! الجنازة التي كان يحضرها عدد كبير وغفير من الناس بالذات في القرى . يحضرها الآن عدد قليل يعد على اصابع اليد الواحدة !

 وبذلك يتم وضع الجثة في الكرب بواسطه اشخاص من المستشفى متخذين كل احتياطات  الأمان من لبس البدل الخاصة بالوقاية  ثم يتم وضع الكرب في الاسعاف والصلاة عليها في الاسعاف

اعتقد ان صاحب الميت يحب ان يقول لك : اتصرف أنت بمعرفتك طالما غسلته وكفنته واكمل جميلك  وكمل دفنه  .

ويستمر مسلسل الغسل معنا ..

شاهد أيضاً

يتساءل الجهلاء : أليس المحجبات مثل الراهبات؟

إسماعيل حسني الراهبة إنسانة ميتة، صلوا عليها صلاة الميت يوم رهبنتها رمزاً لمغادرتها العالم المادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.