الثلاثاء , أبريل 23 2024
مختار محمود

جمهورية غادة والي

مختار محمود

فتاة الرسومات المسروقة “غادة والي” ليست حالة فريدة ولا استثنائية.

رفقًا بالفتاة الثلاثينية، ثم رفقًا بأعصابكم وقلوبكم الضعيفة.

توقفوا عن الإساءة إليها والسخرية منها والتطاول عليها؛ فهي لم تخطيء، بل نحن المخطئون.

ابتلعوا ألسنتكم واصمتوا؛ حتى لا تقعوا تحت طائلة المجلس القومي للمرأة وصاحبته مايا مرسي.

تعاملت “غادة” بذكاء ودهاء مع واقع بائس لا يحترم الكفاءة ولا يقدر التميز ولا يُعظم من شأن المجتهدين، حتى وإن ادَّعى هذا الواقع الشرف ورفع شعار الفضيلة.

تجاوزت الفتاة الحسناء كل التابوهات الكلاسيكية الساذجة السمجة التي تُحرِّض على الاجتهاد والإخلاص في العمل، وأدركت مبكرًا من أين تؤكل الكتف وتنتزع الدولارات.

لم تحتج “غادة” أن تنطوي مثلاً تحت مظلة النقابة الرسمية للفنانين التشكيليين؛ لأنها تعلم أن مثل هذه الأمور “مجرد شكليات” لا قيمة لها ولا جدوى منها في زمن “الفهلوة”؛ فقد استطاعت خلال فترة قصيرة أن تحقق ما لم يحققه جميع الفنانين التشكيليين الحقيقيين شهرةً وثروة.

واقعة رسومات المترو المسروقة ليست الأولى في السيرة الذاتية المشرفة للمبدعة المذكورة آنفًا؛ فهي تمتلك في أرشيفها الاستثنائي عديدًا من الوقائع المشابهة، كانت سببًا في تكثيف ظهورها الإعلامي وحضورها الفاعليات الشبابية المهمة التي يقتصر حضورها على المتميزين والنابهين والواعدين من أمثالها ممن يتم تجهيزهم للجمهورية الجديدة.

من المرجح..أن “غادة” لم تكن تعلم أن السطو على رسومات فنان آخر جريمة كبرى تستوجب كل هذا الضجة؛ لأنها لو كانت تعلم ذلك ما أقدمت على اقترافها.

ربما تناهى إلى علم “غادة” أن أكاديميًا بارزًا أدين قضائيًا من قبل بالسطو على أبحاث أحد تلاميذه، ورغم ذلك ظل اسمه مطروحًا لمنصب وزاري رفيع، وعندما تقدمت به السن جرت الاستعانة به مستشارًا لأحد الوزراء، ولا يزال في منصبه، ولا يزال يشرف ويناقش رسائل الماجستير والدكتوراه، وقد يتم منحه قريبًا إحدى جوائز الدولة! “غادة” عاصرت أيضًا عشرات الأفلام السينمائية المصرية المسروقة والمقتبسة من السينما الغربية دون الإشارة إلى أصحابها الحقيقيين، وتابعت تكريم من قاموا بالسرقة والاقتباس ومنحهم الجوائز والنياشين؛ باعتبارهم فنانين مبدعين، وربما علمت ما جرى للناقد الفني الكبير محمود قاسم عندما تجرأ وفضح هذه السرقات الفنية الممنهجة وأرَّخ لها.

لكل ما تقدم وغيره..لم يجل بخاطر “غادة” أنها عندما تسطو على رسومات غيرها وتنسبها إلى نفسها تكون قد ارتكبت خطأ مهنيًا وأخلاقيًا جسيمًا يستوجب التشهير بها إعلاميًا وإلكترونيًا.

ومن المؤكد أن “غادة” رأت بأم عينيها الجميلتين أبناء جيلها من أوائل الجامعات وكذلك الحاصلين على الدرجات العلمية الرفيعة وهم يتسكعون في الطرقات؛ بحثًا عن حقوقهم المسلوبة في التعيين والتوظيف بما يناسب مؤهلاتهم التي بذلوا العمر والجهد في سبيلها.

ومن المؤكد أيضًا أنها تعلم أن آلافًا في مثل عمرها لم يتحققوا مهنيًا ولا ماليًا، ولا يزالون يُمنون النفس بفرص لن تجيء، فهل كان يجب عليها أن “تخيب خيبتهم”؟! يكفي “غادة” فخرًا أنها حققت كل أحلامها في زمن تأميم الأرزاق والحياة، فلم تخضع ولم تستسلم ولم تندب حظها، بل أعملت عقلها ومدت يديها لتأخذ بنصيب وافر من كل شيء وفي وقت قياسي، فما أروع المثل القديم: “إن خرب بيت أبوك خد لك منه قالب”! هل كان يجب على “غادة” حتى تنال رضاكم وتتجنب لعناتكم أن تقترف نفس الأخطاء والخطايا التي اقترفتموها بحق أنفسكم الأمَّارة بـ”العبط والخيبة التقيلة”؟ هل كان يجب عليها أن ترهق نفسها؛ لتحصل على وظيفة بائسة براتب بائس، أو تنتظم في طوابير العاطلين، أو تغير مسارها لتعمل في كول سنتر أو متجر لانجيري أو تبيع المشروبات الساخنة وساندوتشات الهامبورجر على قارعة الطريق؟ هل كان يجب عليها عندما واتتها الفرصة تلو الأخرى أن تجتهد وتهدر وقتها في رسم رسومات خاصة بها في زمن “النسخ”..ألسنا في زمن النسخ والمسخ معًا؟ كل التحية والتقدير للفنانة المبدعة المتألقة “غادة والي” التي أتقنت اللعبة أيَّما إتقان، وتعاملت مع مقتضيات عصرها بالتي هي أحسن، وحققت أهدافها بأقصر الطرق، وأرجو أن تتقبل بصدر رحب اعتذاري بالنيابة عن كل استأسدوا في الهجوم عليها وتغافلوا عمَّن مهَّد لها الطريق ووفر لها المحميات المثالية وللمحظوظين أمثالها.

شاهد أيضاً

الحرحور والجحش وحمار الحكيم…

الذكريات كتاب مفتوح ووقائع مازالت تحيا فى القلوب وبقاياها يعشش فى العقول ، وعندما نسافر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.