الخميس , أبريل 25 2024
تل العقارب

تل العقارب !

أخذت الصورة المرفقة عصر أمس، راغبا في توثيق حالة نادرة في عمران مدينة القاهرة في عام 2022.

إذ تحمل المنطقة اسم “تل العقارب” لكن اللافتة الجديدة التي وضعتها الحكومة على التصمميات المعمارية تحمل اسم “روضة السيدة زينب”.

يندر أن يرى الجغرافي بعينه التبدل في أسماء الأماكن قبل أن يفسره للطلاب والقراء، والأكثر ندرة أن يعرف أسباب ذلك التبدل في خضم العملية التي لا تتوقف، من قوى الدفع وقوى الطرد

التي تغير بشكل لا ينقطع في عمران مدينة عريقة موسوعية المحتويات، منتفخة ومتضخمة مثل مدينة القاهرة.

(1)”تل العقارب”

اسم شهير في شارع “المدبح” أو “السلخانة”، ويحمل الشارع روائح ومشاهد من نمط عتيق من استخدام الأرض والنشاط الاقتصادي، كانت تعرفه القاهرة لقرون طويلة قبل أن يتم نقل هذا النشاط الذي تخلف عن المتطلبات الصحية إلى خارج المدينة، وإن لم يقض ذلك نهائيا على وجود بعض طاولات وعربات صغيرة متحركة تجلس عليها سيدات شديدات يبعن الكرشة والفشة والكوارع، وترصع تلك العربات والطاولات بعض جوانب الشارع مذكر إيانا بماض امتد قرنين من الزمن ..وها هو يلفظ أنفاسه الأخيرة.

“تل العقارب” أيضا يقع على مرمى حجر من أشهر مسجد ومقام ومقابر ومهوى بعض المريديين لسيدي “زين العابدين”، وهو بالمناسبة الموقع الذي وقفت على عتباته وأخذت منه الصورة المرفقة”.

“تل العقارب” يقف أيضا غير بعيد عن مقام “أبو الريش” على الجهة الأخرى من شارع عتيق يعرفه كل سكان السيدة زينب ويسمى شارع “السد البراني”.

أخشى لضريح “أبو الريش” من الاندثار والمحو، بعدما أعطى اسمه للمستشفى الشهير وللمكان بأسره، صحيح أنه يقف الآن وحيدا فريدا لا يمسه أحد دونما هدم وإزالة كالمصير الذي طال كل ما حوله ، إلا أنه على الأرجح قد لا ينجو من المحو لأنه يتحمل عاقبة تفرده باحتلاله موقعا عبقريا عند التقاء ثلاثة شوارع رئيسة: السد البراني/بيرم التونسي/ شارع بورسعيد المعروف باسم شارع الخليج المصري.

“تل العقارب” أيضا يقع في مكان لا تخطئه العين يحوي موقعا قبطيا نادرا في شارع “الديورة” !بفضل أصدقائي الأقباط في الجامعة عرفت مبكرا معنى “الديورة” وهو نطق قبطي خاص للكلمة العربية “الأديرة” التي يتخذها المسيحيون مقرا للرهبنة في بعض الأماكن.

يدهشنا هنا أن هذا المكان من وسط القاهرة الصاخبة التي تعج بالزحام وفيضان البشر ليل نهار كان موطنا لأديرة الرهبنة؟ أية رهبنة هنا وكل ما حولك يشتت القلب والعقل؟لكي نعرف الإجابة نحتاج إلى إعادة بناء صورة القاهرة قبل بضعة قرون من الزمن حينما كانت هذه المنطقة في عزلة وهدوء وصفاء ومنأى عن كل ما يسرق القلوب ويفسد النفوس.

يضم شارع “الديورة” معلما مسيحيا بالغ التميز وهو دير “مارمينا العجايبي” ومعه بعض الخدمات الدينية المسيحية والمقابر والزيارات المقدسة.

من عجبٍ أن القديس المصري الشهير “مارمينا” الذي يعود للعصر الروماني يأتي هنا غير بعيد عن “تل العقارب” وكأنه قد قطع مسافة مئات الكيلومترات من مقره في شمال الصحراء الغربية في منطقة مريوط حيث تحيط به المدينة الجميلة حاليا “برج العرب الجديدة”.

عاش مار مينا قرونا عديدة يعد فيها “حارسا” على شمال الصحراء الغربية وكانت تتدفق إليه أفواج من الزائرين أو “الحجاج”.

ولأن منطقة الديورة تقع في السيدة زينب فلا عجب إذن أن نجد أن نهاية تل العقارب وبداية دير “مار رمينا” لابد أن تمر عبر مسجد يتربع ناصية الشارع يسمى مسجد “الطيبي”. “الطيبي” منطقة توأم لتل العقارب تشهد هي الأخرى تغييرا في هيئتها العمرانية لتحويلها إلى منطقة سكن منظم بعدما كانت تسمى في جغرافية العمران “سكن عشوائي”.

(2)”السكن العشوائي”

مصطلح آخذ في التراجع مع انتباه علماء الجغرافيا والمدن والاجتماع إلى أنه يحمل معنى فيها إساءة لسكان المكان. في أحيان كثيرة لم يختر سكان هذه المناطق أن يكونوا “عشوائيين” فالفقر والعدم والهجرة من الريف الغارق في البطالة هم الآباء الشرعيين لظهور هذا النمط من العمران الذي يتصالح كثير من العلماء اليوم على تسميته بالسكن “غير المخطط”.

السكن غير المخطط مصطلح أكثر تأدبا ولطفا، ولا يحمل أية إساءات، بدلا من السكن العشوائي ومدن الصفيح ومدن الزبالة ..وما شابه.

حين أخذت الصورة المرفقة دارت في ذهني كل الاسئلة التآمرية عن طرد “السكان الأصليين” وإحلال سكان أكثر ثراء مكانهم. كانت الافتراضات الجاهزة هي أن الدولة استغلت هذا الموقع العبقري لتبيعه لوافدين من خارج المدينة.

درت بين المكان، سألت سكانا من خارج الحي، ثم دلفت إلى داخل تل العقارب وقابلت بعضا من السكان وأكملت الدوران حول المجمع كله وخرجت بما يلي:

كل سكان الحي من أصحابه الأصليين، تم تهجيرهم مؤقتا خلال عملية الهدم والإزالة إلى مقر سكني في المقطم ثم أعيدوا بعد انتهاء البلوكات العمرانية الجميلة التي أمامنا في الصورة المرفقة.

دفع السكان مبلغا في حدود 7 آلاف جنيه نظير بعض التجديدات مع تحملهم بالطبع دفع فواتير المياه والكهرباء والخدمات الاخرى كأي منطقة سكنية في القاهرة.

وفرت الحكومة أثاثا جديدا للسكان، عاد السكان ليجدوا السكن مفروشا بأثاث مناسب يستخدمونه نعم ولا يملكون حق بيعه أو التصرف فيه أو نقله خارج الحي، ولا تطالبهم الحكومة به فهو حق لهم ولأبنائهم.

لا يملك السكان الحق في المحال التجارية السفلية في العمارات فهذه ستطرحها الدولة للإيجار أو التمليك كجزء من استرداد نفقات وتكاليف الهدم والإزالة والبناء والتشييد.

نظرا لأن المنطقة كانت مقامة بشكل “غير مخطط” وبطريقة غير منظمة فقد كسب التخطيط مساحة إضافية تمثل 5 عمارات على الشارع الرئيسي تم بيعها للتمليك الاستثماري الحر للدولة كشكل من أشكال تغطية كلفة الهدم والإزالة والتأسيس.

(3) يمكن لأي زائر عابر اليوم أن يمر داخل روضة السيدة زينب (تل العقارب سابقا)

ويرى الوحدات السكنية ويلحظ أبناء المنطقة وهم يلعبون في شوارع نظيفة منظمة.هذا النمط المعماري بتنظيمه الجديد ينقلنا إلى أبعاد اجتماعية في حياة “تل العقارب” بعدما تحولت إلى “روضة السيدة زينب” ويطرح أمامنا أسئلة عديدة تحتاج إلى دور علماء الاجتماع وإلى دور الباحثين في الجغرافيا الاجتماعية، وفي مقدمة هذه الأسئلة:

هل تغير البناء الاقصادي لسكان المنطقة للأفضل أم للأسوأ؟ وكيف يمكن علاج السلبيات إن وجدت لتطوير المشروعات المستقبلية في مناطق أخرى من الدولة؟

ماذا تبدل في المنظومة الاجتماعية؟ وهل التبدل كان للأفضل بعد التنسيق والتنظيم والترتيب؟

هل ساهم هذا النظام الجديد في الحد من الجرائم والمخالفات القانونية وانتشار المخدرات أم أن المخدرات اليوم أصبحت أكبر من أن تحصى في الحشيش التقليدي وصار “البرشام” أسهل وأكثر انتشارا وتوزيعا في كل مكان:

من القرى السياحية الفاخرة إلى الأحياء الفقيرة؟

هل هناك مستقبل أفضل لأبناء هذه المنطقة بعد أن يتم تغيير النظام الاقتصادي والعمراني لصالح السكن غير المخطط؟

كيف يمكن توفير فرص عمل نظيفة وآمنة ومربحة للسكان الأصليين الذين عادوا فعلا وقد خسروا أنماط عملهم التقليدي القديم؟

(4) سأختم بملاحظة عابرة كي لا أطيل عليكم.

وهذه الملاحظة مستمدة من زيارة منطقة تشبه (بدرجة ما) تل العقارب في البرازيل وبالتحديد قبالة الساحل الثري على شواطئ ريو دي جانيرو المعروف باسم شاطي “كوباكابانا Copacabana”كنت قبل عقد من الزمن قد أمضيت شهرا في البرازيل، وجعلت أسبوعا منه في “ريو” التي يقابلها منطقة سكنية على التلال تشبه “تل العقارب”، وتمسى هنا باسم “فاﭬيلا Favela” وقرأت عنها في الأدلة السياحية في الكتب والمطبوعات ووجدت تحذيرا للزوار الأجانب يقول:”لا ينصحج بزيارة هذه المنطقة بمفردك لانتشار الجريمة بها”طبعا لم آخذ بهذه النصيحة لأن ملامحي لا علاقة لها بالأوربيين البيض الشقر، فانا ابن البشرة السمراء، والملامح الإفريقية هي جواز سفري إلى هذه المنطقة التي يسكنها مواطنون من الطبقات المهمشة الفقيرة ذوي الأصول الإفريقية أو الخليط بين السكان الأصليين والأفارقة.

صعدت إلى المنطقة الجبلية ومرت رحلتي بسلام ووجدت أنها لا تختلف عن مناطق السكن غير المخطط في عمران القاهرة على حافة هضبة المقطم مثلا، حيث البيوت على المنحدرات والصرف الصحي يلقى على الطرقات والشوارع الملتوية الضيقة والناس التي تجلس على المساطب أمام البيوت تراقب وتترقب، وكل ذلك على مرمى حجر من أفخم الفنادق وأغلى شواطئ العالم وأكثرها فخامة.

نعود إلى “تل العقارب” التي كان دخولها أمرا ليس سهلا في الماضي، ونسمع بعض سكان المنطقة المحيطة يقولون إن هذا النمط المعماري الجديد يخفي تاريخ المكان الذي كان تلا من صخور الحجر الجيري اتخذه السكان جدرانا وبيوتا وعششا.

يقول بعض سكان المنطقة إن تل العقارب كانت منطقة بالغة السوء في المظهر العمراني وفي إلقاء المخلفات مباشرة على الشارع الرئيسي قبالة سيدي “زين العابدين” وعلى شارع السلخانة، ويقولون أيضا إن ما نراه الآن هو بالطبع أجمل مما كان واقعا.

وحين سمعت عبارة أجمل من الوضع البائس في تل العقارب سابقا سألت محدثي من سكان البيوت المقابلة لتل العقارب:

هل إذا جاءت الحكومة وطلبت منك ترك بيتك الآيل للسقوط لكي تحوله أيضا إلى هذا النمط هل تمانع؟ تردد محدثي قليلا وقال : “أنا مش متأكد هم هيعملوا معانا ايه بالضبط؟ أنا خايف لو مشينا ما يرجعوناش تاني.

مش عارف ممكن يبيعوا بيوتنا لناس أغراب يدفعوا ملايين ولا فعلا نرجع نسكنها؟ هيعطونا بيوتنا تاني ولا شقة صغيرة؟ أنا هنا فاتح محل وورشة زي ما انت شايف …هاضطر اشتريها أو ادفعلها إيجار بعد كدة؟ يبدو أني حقا قد أطلت عليكم ودرت بكم من هنا وهناك، ولكن عذري أن “تل العقارب” مثال مفيد للغاية يمكننا من خلاله فهم قوى الدفع وقوى الطرد، التي تخلق التحولات والتغيرات في الهندسة الاجتماعية لسكان هذه المدينة العريقة، الموسوعية المحتويات، المنتفخة حد التضخم ..التي تسمى القاهرة.

صفحة الدكتور عاطف معتمد

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

الضابط شفتيه، فطين

ماجد سوس تفاح من ذهب في مصوغ من فضة، كلمة مقولة في محلها. تلك المقولة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.