السبت , أبريل 27 2024
فن
سحر محمد نوح

سفينة نوح

عندما تيقن أن حلاوة صوته سوف تمنع المستمعين من الغناء، قرر أن يخبئ ميزات أوتار حنجرته، ويتواضع لحنيًا، من أجل حث المستمع صاحب الصوت الخشن على الدندنة.

هكذا بدأ التمرد الموسيقي لمحمد نوح (1 يناير 1937 – 5 أغسطس 2012)، الذي فضل أن يكون مع الجماهير بدلًا من فرد عضلاته الغنائية عليهم، قرر أن يكون “الممَدَد” لمن عجز صوته عن مجاراة الألحان العاطفية الشهيرة.”لما يكون حد بيغني بصوت حلو قوي، الناس مبتعرفش تغني معاه، بس بتسمع حلاوة صوته، أنا بقى بخبي حلاوة صوتي، عشان أي حد من القاعدين، يغني معايا”.

محمد نوح بمصاحبة فرقته

يقف نوح على خشبة المسرح، بجسده الضخم وشعره المشعث، يبشر الجميع أن القادم أفضل، ينفعل مع كل كلمة، ويبعث للمستمع رسالة فحواها: هيا غَنِّ معي، سأقول: مَدَد.. مَدَد.. مَدَد، ليرد الجمهور: شدي حيلك يا بلد.

نوح المشاغب الاستثنائي يحرك الجماهير في تظاهرة غنائية، لا يأخذ الأمور بهوادة، يغني لمصر بانفعال وتعصب، ويطلب من الحضور أن يترك حالة “السلطنة” الناعمة.

المطرب الذي يبكي على محبوبته ليس وجود في سفينته الجديدة.

شرع نوح في بناء سفينته “الموسيقية”، عندما حصل على دبلوم من معهد الموسيقى العربية، ثم أبحر إلى أمريكا ودرس التأليف الموسيقي، في جامعة ستانفورد.

ثم عاد إلى مصر، بعشق مدرسة سيد درويش، والغوص في بحور الفلكلور المصري، ورغبة عارمة في التجديد الموسيقي، بدأها برفض مصطلحي الموسيقى الشرقية والغربية، كان يرى أن الموسيقى لا تنسب إلى اللغة، وأكبر من اختلاف الثقافات.

“هل لو وضعت الملوخية في فنجان القهوة هل ستصبح قهوة؟

إذن أيضا لو وضعت الموسيقى في منطقة الشرق الأوسط فليس معنى ذلك أنها أصبحت موسيقى شرقية أو عربية”.

محمد نوح

بدأ نوح وفديًا، ثم انحاز بعد ذلك لثورة 1952، وبعد عشر سنوات رأى أنه ناصريًا أكثر من جمال عبد الناصر نفسه، لأن الزعيم لم يعط للديمقراطية حقها، ما أصابه بخيبة أمل.

فصل من عمله ككاتب أرشيف في ديوان محافظة البحيرة؛ نتيجة مواقفه السياسية، واعتقل مع صديقه عندما حاول ابلاغ عبد الناصر، بالفساد والاختلاسات.

وبعد نكسة 67، قرر أن ينادي على مصر، ويشعل حماس الجماهير، عكس آخرين توجهوا إلى الأغاني الخفيفة بعد الهزيمة، بينما نوح يريدهم أن تتحرك مشاعرهم، وهذا ما حدث في الشارع الذي استقبل الأغنية بحفاوة وترحيب العطشى بموسيقى مختلفة عن السائد.

رفضت الأجهزة الأمنية الـ”مدد”، فتم اعتقاله لمدة شهرين، وحذف اسمه من تترات الأعمال التلفزيونية التي شارك فيها.

بقرار من وزير الثقافة – آنذاك – يوسف السباعي.حتى في عهد السادات، اعتقل نوح أيضًا، بعد قدم مسرحيتين سياسيتين “كلام فارغ” و “كلام فارغ جدًا” للكاتب أحمد رجب، في الأولى أغلق المسرح، وفي الثانية ظن السادات أن نوح يسخر منه.

لكن نوح خرج من هذا المأزق عندما أرسل للسادات من المعتقل، تسجيل للمسرحيتين، ليعلم أن هناك سوء تفاهم، وبالفعل يحصل على العفو، ويلتقي نوح بالسادات فور خروجه، ومن وقتها أصبحا صديقان.

وحينما عاد السادات من زيارته التاريخية للقدس، استقبل موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، الرئيس العائد رسميًا بالفرقة العسكرية، بينما كان نوح في الشارع يستقبله بأغانيه الحماسية الشعبية.

بعد اغتيال السادات، شعر نوح أن مهمته الحماسية انتهت، فقرر اعتزال الغناء، والتفرغ للتلحين وفرقته المسرحية، شعر بغصة في الثمانينات جعلته يفكر في الهجرة، لكن عودة حزب الوفد للحياة السياسية أعطته الأمل من جديد، وكتب مقالات في صحيفته الحزبية، سرعان ما اكتشف أن الوفد يختلف كثيرًا عن الحزب القديم، الذي دعمه في شبابه عام 1951، النسخة المنقحة الجديدة تخلت عن الليبرالية، وتحالفت مع الإخوان.

في عصر مبارك، تلقى نوح ضربة قوية من رجل النظام القديم؛ يبدو أن مسرحيته “سحلب” تخطت الخطوط الحمراء، تم إغلاق المسرح، وبعد فترة فوجئ ببولدوزر، وعربيات مدرعة تقوم بهدم سفينته (المسرح).

سقط محمد نوح، مصابًا بالجلطة، لم تنج سفينته من الطوفان، لكن لم ييأس، استمر مع فرقته العائلية “رباعي نوح”، يغني في النجوع والقرى، يتنقل بالحمار من مكان لآخر، ليكمل رسالة كل العشاق الذين حلموا ببناء سفينة إبداع تغيثنا من الطوفان.

شاهد أيضاً

المغرب

الــملــصـق المسرحي لمن ؟

نــجـيـب طــلال مـفارقات: أشرنا ما مرة، بأن هنالك ظواهر تخترق جسد المشهد المسرحي في المغرب، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.