الأحد , أبريل 28 2024
ميوس هرموس
الدكتور عاطف معتمد

القصير القديم أو “ميوس هرموس” !

الدكتور عاطف معتمد

أخذت الصورة المرفقة من مصب أحد الأودية التي تنتهي في منطقة القصير.

الأودية هنا شهيرة ومعروفة على الخرائط منذ الحملة الفرنسية، ومنها وادي العمبجي.

العمبج اسم نبات ينتشر بكثافة أقرب إلى أحراش صغيرة في بطن الوادي قبيل النزول إلى البحر الأحمر.

لكن الوادي الذي ننظر إليه في الصورة أجرد من النبات، يقع شمال وادي العمبجي بنحو 10 كم.

وقد تبين من الزيارة الميدانية أن هذا الوادي مطمور بنوعين من الإرسابات:

رواسب بحرية من ارتفاع منسوب مياه البحر الأحمر في فترة تاريخية وقد دخلت مياه البحر هنا بعدد كبير من الكائنات البحرية والقواقع والشعاب المرجانية.

رواسب السيول التي حملتها مياه الأمطار من قمم التلال التي ينبع منها هذا الوادي، المعروف باسم وادي “القصير القديم”.

وعند مصب وادي القصير القديم يقترب وادي “العنـــز” ليصبا معا في البحر الأحمر.

ويسمى الوادي “القصير القديم” تمييزا لهذا الميناء المطمور عن الميناء الحديث الذي نشأ لخامات الفوسفات في مطلع القرن العشرين.

في الصورة العلوية، طالبتي النابهة في الماجستير – من أسفٍ أنها لم تكمل الدراسات العليا – تقف في بطن الوادي المطمور؛ وفي الصورة السفلية أقف بين أطلال مبنى أثري قديم كشفت عنه حفائر البعثات الأجنبية.

لقد بدأ البطالمة اهتمامهم بموانئ البحر الأحمر منذ عام 300 قبل الميلاد.

وبعد انهيار دولة البطالمة اليونان واحتلال الرومان مصر واصلوا الاعتناء بالميناء لأغراض التجارة الدولية.

وكما أشرنا من قبل لقد سار كل من اليونان والرومان على خطى المصريين القدماء.

وفي مقالات سابقة ألمحنا أنه إذا كان المصريون القدماء قد توقفوا بالخريطة عند جنوب البحر الأحمر فإن الرومان وسعوا الخريطة إلى الهند.

ومن هنا فإن الشهرة العالمية للموقع الحالي الذي تضمه الصورة تحت اسم ميناء “القصير القديم” يأتي من ارتباطه بموانئ الهند ولا سيما في إقليم “كيرلا” في جنوب غرب شبه القارة الهندية.

أي أن اختراع التجارة المعولمة قد ظهر قبل ظهور مصطلح العولمة الحديث بأكثر من ألفي سنة.

وقد استمرت حفائر البعثات الأجنبية – ولا سيما الأمريكية والإنجليزية – في هذا الميناء خلال الفترة من 1978 و2003.

وتبين من الحفائر ثلاث معلومات أساسية:

أن الميناء المطمور أمامنا في الصورة من تأسيس البطالمة، ولكن الانتشار الواسع للمباني والوثائق القديمة التي وجدت هناك ترجع إلى العصر الروماني المبكر.

استمر نشاط “القصير القديم” في الازدهار والمساهمة في التجارة الدولية بين عوالم: البحر المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي، وظل على هذا النشاط حتى القرن الثالث الميلادي عندما توقف الميناء عن العمل.

لأسباب طبيعية وسياسية ظل هذا الميناء مهجورا لحوالي ألف سنة حتى انتعش في العصر الإسلامي الوسيط خلال حكم الأيوبيين والمماليك.

وبحلول القرن الخامس عشر هُجر الموقع مرة أخرى.

وبعد ذلك، انتقلت الأنشطة إلى القصير الحالية أو القصير الحديثة، على بعد حوالي 8 كم جنوب أطلال ميوس هرموس.

لماذا حمل ميناء “القصير القديم” اسم “ميوس هرموس“؟ ان هذا الاسم مكتوب في كتب الجغرافيين القدماء قبل ألفي سنة، ولم يكن اسم القصير العربي معروفا في تلك الفترة.

دعنا أولا نراجع التفسيرات العربية لكلمة “القصير” ، وأشهرها:

أن الميناء كان به “قصر” أو قلعة صغير تعرف باسم القصير.

أن الطريق من هنا في البحر الأحمر يصل بنا إلى “الأقصر” على النيل ومن هنا جاء الاسم.

أن الاسم يشير إلى طبيعة الطريق بين وادي النيل والبحر الأحمر لأننا من هنا إذا سرنا غربا فإننا نسير في “الطريق القصير” الذي يوصلنا إلى النيل.

التفسير الأخير قريب جدا من الجغرافيا والمنطق، لأن الطريق بين القصير قنا والأقصر هو فعلا أقصر طريق في كل الصحراء الشرقية.

كان الجغرافيون في القرن التاسع عشر والقرن العشرين مغرمين بتشبيه الجغرافيا بجسم الإنسان، وقد أطلقوا على هذا الطريق اسم “خاصرة” الصحراء الشرقية.الخاصرة هي أضيق جزء في جسم الإنسان الرشيق في منتصف جسده.

نقول إنه قبل 2000 سنة لم يكن الاسم العربي “القصير” معروفا لهذا المكان بل كان يحمل اسما يونانيا هو ميوس هرموس Myos Hormos.

هذا اسم يوناني أطلقه البطالمة من أحفاد الإسكندر الأكبر على الميناء.

يتألف الاسم من مقطعين “ميوس Myos” وتعني قوقعة بحرية و “هرموس Hormos” وتعني ميناء.

والترجمة الحرفية هي “ميناء القوقعة.

أما المعنى الدلالي للمكان فيقصد به “الميناء القوسي” أو الميناء المحمي الأقرب إلى شكل القوقعة”.

لماذا لا تضع لنا خريطة توضح هذه المواقع الجغرافية؟ ولماذا اندثر هذا الميناء؟ وما الذي وجدته البعثات من حفائر؟ وما علاقة الموقع المصري على البحر الأحمر بالجغرافيا الكبيرة الممتدة إلى الهند؟

حسنا..دعونا نجرب الإجابة على تلك الأسئلة في المقال المقبل.

شاهد أيضاً

المغرب

الــملــصـق المسرحي لمن ؟

نــجـيـب طــلال مـفارقات: أشرنا ما مرة، بأن هنالك ظواهر تخترق جسد المشهد المسرحي في المغرب، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.