السبت , أبريل 27 2024
الدكتور عاطف معتمد

الحداثة والأسطورة في “سيدي عبد الرحمن” !؟

قبل أشهر قليلة زرت منطقة سيدي عبد الرحمن، في الساحل الشمالي الغربي لمصر.

كنت أركب مشروع (ميكروباص بلهجة الإسكندرانية) انطلق من الكيلو 21 إلى مرسى مطروح.

لم تكن وجهتي مطروح بل رأس الحكمة للنزول في ضيافة صديق من أولاد علي، بهدف جمع بيانات عن القبيلة وما طرأ عليها من تطور وحداثة وتغير وتبدل، ما فقدته وما تمسكت به.

في طريقي من الإسكندرية إلى رأس الحكمة مر “المشروع” كالعادة ببلدات الساحل الشهيرة: أبو تلات، سيدي كرير، مدخل برج العرب وملاحة مريوط؛ الحمَّام، والقرى السياحية المتلاصقة التي تحجب رؤية البحر الذي صار حقا حصريا لأصحاب عشرات الملايين من الأثرياء الجدد! ما إن غادرنا مارينا ووصلنا إلى العلمين حتى هاجت الذكريات.

لقد عشت إلى اليوم الذي أرى فيه أعجوبة عمرانية: قصر رئاسي، أبراج على نمط دبي، أسماء إنجليزية وإيطالية للتجمعات السياحية والسكنية الحصرية لقرى وكومباوند محرم على غير أهله المساس بأسواره.

لعلي من القلائل الذين يستطيعون أن يقولوا عن العلمين الجديدة إنها أعجوبة في الصحراء.

فقد بدأت حياتي المهنية من هنا، ففي 1994 جئت لأدرس الماجستير، لم يكن في العلمين سوى مطعم لرجل شارد الذهن، في الخمسين من عمره آنذاك، تحصره علي ما يبدو ذكريات الماضي، يعيش بلا هدف، لكنه مع ذلك كان يقدم في وجبة الصباح طبق بيض مقلي أكثر من رائع.

ذات مرة من عام 1994 غامر أحد الضباط باستضافتي لأبيت في خيمة عسكرية مع أحد الجنود، لأنه أدرك أن البديل الوحيد أن أبيت الليلة على قارعة الطريق.

في اليوم التالي دبر لي مكانا عند صاحب المطعم، ذلك الشيخ الشارد الذي ينظر في فراغ الصحراء إلى منخفض القطارة، من دون أمل، أخذني ذلك الشيخ لأبيت في بيت مهجور، ظننت أنه لا محال مسكون بالجن والعفاريت.

أعدت نفسي من الذكريات إلى عالم اليوم، ومن شرفة النافذة في هذا “المشروع” نظرت إلى القصر الرئاسي في العلمين الجديدة، وبعد أقل من عشر دقائق طلب احد الركاب أن ينزل عند “هاسيندا بيه”.

هذه هي المرة الأولى التي اسمع فيها هذا الاسم، وقد دخلا لاسم أذني على صيغة أن هناك رجل ثري أجنبي اسمه “هاسيندا” ولابد أنه “بيه” أو باشا.

لكن من هو هاسيندا بيه هذا؟ فتحت هاتفي المحمول وأدرت الموقع الجغرافي على الخرائط الرقمية في جوجل وقرأت الاسم الصحيح للمكان Hacienda Bay .

الآن فهمت نصف اللغزـ فكلمة بيه التي نطقها العامل الذي نزل في ذلك المكان هي كلمة Bay وتعني “خليج بحري”.

أنا أعرف المكان منذ سنوات طويلة، ولا يوجد هنا أي خليج بحري، بل على العكس رأس متوغلة من البايس في عرض البحر تسمى “رأس سيدي عبد الرحمن”.

على خرائط الهاتف المحمول حولت الخريطة إلى صورة القمر الصناعي ففهمت السبب، لقد قامت القرى السياحية بخلق مجموعة من البحيرات الصناعية وفتحات في البحر (مثلما فعلت مارينا في البحر المتوسط والجونة في البحر الأحمر) وأصبح المكان في الترويج السياحي “Bay..أي خليج بحري”.

إنها حقا مسخرة التدخل البشري في البيئة الطبيعية التي تقلب الأوضاع وتبدل الأسماء وتعكس الهيئة الأولى للمكان.

ماذا عن الشطر الثاني من الاسم العجيب “هاسيندا”.

سيدي عبد الرحمن
سيدي عبد الرحمن

بفضل البحث في العم جوجل على الهاتف المحمول – وما زلت في مقعدي بجوار النافذة في المشروع – تبين أن الكلمة من أصل أسباني وانتشرت في عصر المسلمين في الأندلس وتعني ضيعة صغيرة ذات حدائق من أفنان وجنان.

لو تركنا الساحل الشمالي للجغرافيين الكلاسيكيين من أمثالي لعشنا ومتنا والاسم لا يتغير “رأس سيدي عبد الرحمن” أما لغة المال السياحي وأصحاب الخيال في بيئة رجال الأعمال، وأصحاب مشروعات الاستيلاء على الأرض المشاع وتخصيصيها لحفنة قليلة من الأثرياء وتحريمها على عموم الشعب فلهم رؤية أكثر ديناميكية وشطارة وترويج وتلميع وقلب الرأس إلى خليج.

لو فتحت الآن الخرائط الرقمية على حاسوبك لرأيت التفرقة الاقتصادية والعرقية والجغرافية في سيدي عبد الرحمن، الطريق الأسفلتي يشطر المنطقة إلى عالمين مختلفين: شمال الطريق عند “هايسندا بيه” وأخواتها “مراسي”، في مقابل البدائية البسيطة لقبائل أولاد علي في جنوب الطريق.

إنه تجاور القبيلة ورأس المال السياحي.

تجاور الحداثة والأصالة، السلطة والمال والاستيلاء الحصري من ناحية والبداءة والبساطة وحياة التين والزيتون والشعير من ناحية أخرى.

إنه أيضا تجاور الوافد والأصيل، مع التسليم أيضا بان الأصيل هنا ليس أصيلا في المطلق، لأنه وفد قبل أقل من ألف سنة من هجرات وصراعات سياسية في شبه الجزيرة العربية دفعت قبائل بني هلال وبني سليم إلى الساحل الشمالي الأفريقي وكان نصيب ساحل مصر منها أولاد علي من بني سليم.

وصلت رأس الحكمة،وقابلت صديقي وتناقسنا في الأسماء والمعلومات والحداثة والصالة والقبيلة والأعراف والشرائع القديمة والجديدة.

ثم عدت إلى القاهرة وكتبت مقالا او اثنني عن “الحق الحصري في البحر” ضمن سلسلة مقالات عن “الحق في المكان” لك ومع زحمة العمل فاتني أن أدون ملاحظاتي الجديدة عن سيدي عبد الرحمن.

ليلة أمس وبينما أقلب في أوراق جغرافي من عصر الاستعمار أصدر كتابه في عام 1930 قرأت القصة الأًصلية عن سيدي عبد الرحمن فازددت دهشة وقلت لنفسي: كيف اجتمع في هذا المكان الفريد تلك الأسطورة الدينية وتلك الحداثة الحصرية.

وحتى لا أطيل عليكم سأكتب عن ذلك في مقال مقبل، لنعرف القصة الأسطورية عن سيدي عبد الرحمن والتي لا تقل طرافة عن حكاية هاسيندا بيه !

شاهد أيضاً

المغرب

الــملــصـق المسرحي لمن ؟

نــجـيـب طــلال مـفارقات: أشرنا ما مرة، بأن هنالك ظواهر تخترق جسد المشهد المسرحي في المغرب، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.