السبت , أبريل 27 2024
الدكتور عاطف معتمد

50 عاما على صوت الربابة !

حين كنت ابن خمس سنوات كانت الربابة هي أول آلة موسيقية أتعرف عليها. كان رفاق أبي يتجمعون في بيتنا الصغير في نهاية كل أسبوع في يوم الراحة الوحيد من العمل الشاق.

هاجر جميعهم من الصعيد إلى هوامش القاهرة، لم يتركوا خلفهم طينا ولا زرعا، وأضافت القاهرة إلى كفاحهم عبئا مضاعفا.

في السامر البدائي الأسبوعي الذي كان يجمعهم في حلقة دائرية يتوسطهم عازف الربابة “عم ربيع” تعرفت لأول مرة إلى شذرات متفرقات من سيرة أبو زيد الهلالي سلامة، وإلى مدائح في حب النبي المصطفى، وإلى مواويل شجية من الحب والعشق والغربة، يحبس معها المستمعون الدموع في الأحداق.

كانت أمي تجهز أدوارا متعاقبة من المشروب الرسمي لتلك الأمسيات: الشاي الثقيل بالنعناع، الذي يقدم محلى بسكر عتيق، يقدم الشاي منفردا في بداية الأمسية، ثم بعد ساعة يرفق معه الفول السوداني، وفي المواسم يحضر الحمص أو حلويات مزركشة جاءت مؤخرا من طنطا من السيد البدوي.

كانت الربابة تثير أشواق أمي إلى وطنها في الصعيد، فتلمع عيناها، وقد زادها الكحل حسنا على حسن سمارها السمح، وحين تلحظ أنني أتابع شغفها الطفولي تسألني أن أذهب لأندس بين الرجال …غير بعيد عن عم ربيع.

لم يكن عم ربيع عازف ربابة فحسب، بل كان مطربا ندي الصوت، سأعرف فيما بعد أن صوته كان مزيجا من أصوات محمد رشدي ومحرم فؤاد ومحمد قنديل بل ومحمد طه وياسين التهامي.

حاولت في غير مرة أن ألمس الربابة وأجرب العزف مع عم ربيع، لكن الآلة الموسيقية كانت من المحرمات التي لا يجب المساس بها، وفي كل محاولة كان أبي ينهرني حتى لا أخرب أوتار الآلة الرقيقة المقدسة، فأتسبب عن دون قصد في غضب عم ربيع فيتوقف عن زيارتنا.

اشترت لي أمي آلة ربابة صغيرة من بائع لعب أطفال، قبل خمسين سنة !كانت الصدمة كبيرة بين لعبة الأطفال تلك التي تصدر أصواتا مفزعة كصفير الماعز الهائج، وبين الأنغام المحلقة في السماء التي كان تؤديها ربابة عم ربيع.

هاجت تلك الذكريات في نفسي خلال الأسبوع الماضي وأنا أقرأ كتاب الجغرافي الاستعماري عن الآلات الموسيقية لدى بدو الصحاري المصرية.

يحدثنا المؤلف عن الربابة والمزمار لدى عرب سيناء ويقارنهما بالآلات الأوروبية مستخفا بالألحان البسيطة الصادرة عنهما.

وبينما أنا منهمك في تلك الأوراق الرائعة للجغرافي الاستعماري منذ عام 1920 حل موعد الذهاب إلى دار الأوبرا المصرية مساء أمس.

الحفل تنظمه دار الأوبرا، لفريق من العزف على الآلات الموسيقية الغربية والشرقية، تتقدمه الفنانة المصرية المبدعة د. رشا يحي Rasha Yehia، المشهورة بعزفها على آلة كمان متوسطة الحجم تعرف باسم الـ “ڤيولا viola “.

ترددت أكثر من مرة في الذهاب ليلة أمس، كنت أعرف أن الحفل فرصة نادرة لتنشيط النفس والروح بموسيقى الشرق والغرب، لكني قلت في نفسي لن أترك هذا الفصل من كتاب الجغرافي الاستعماري قبل أن انتهي منه لاسيما أنه ينقل لنا طرق الفن الشعبي عن بدو سيناء ونهر الأردن وفلسطين.

في الساعة الأخيرة، استجبت للنداهة وذهبت لدار الأوبرا فانضممت إلى الجمهور، خطفت من شباك التذاكر تذكرة قيمتها 160 جنيها، وكنت آخر الداخلين، وقد صعدت د. رشا يحيى على المسرح بالفعل.يتألف العرض الموسيقي من فصلين، وكل منهما مؤلف من شقين:

موسيقى غربية وأخرى شرقية.

في الفصل الأول تألقت د. رشا يحي ومعها فريق من العازفين في تقديم موسيقى روسية وبرازيلية وأوروبية ثم أنهت هذا الفصل المبدع بنفحة رائعة من ألحان سيد درويش.

يشغلني في الحفلات الموسيقية في دار الأوبرا المصرية مراقبة حال الجمهور في مثل هذه المناسبات.

فهو مع الموسيقى الغربية هادئ وقور، يترقب انتهاء كل مقطوعة بتركيز حتى يصفق في الوقت المناسب.

أما في الموسيقى الشرقية يتحول هذا الجمهور الوقور إلى طفل شرقي مبتهج، كيف لا وقد أعادته موسيقى سيد درويش إلى أجواء مصر في مطلع القرن العشرين وكلمات تحفظها الذاكرة من أغاني “اهو ده اللي صار” و “يا ورد على فل وياسمين” و “طلعت يا محلا نورها ” فضلا عن “شد الحزام و “محسوبكو انداس” ! لدى د.رشا يحيى طاقة روحية وفنية فياضة، توزعها بالعدل والمساواة على آلة الـڤيولا التي تعزف عليها، وعلى الجمهور الذي يتطلع إلى فنها المبدع، ولا يفوتها في كل مرة تقديم كلمات الشكر والتقدير لفريق الفنانين الذين يشاركونها العزف.

صحيح أن الحفل يحمل اسمها، ويحمل اسم آلتها التي تبدع عليها في تحديات تقديم مقطوعات موسيقي وغربية على “الـ ڤيولا ” التي ليس من السهل التعامل معها في كل هذه الألحان إلا بتدريب شاق، إلا أن د. رشا يحيى تدرك أن العزف المنفرد لا يمكن أن يمتع الحضور إلا بتكامل من الآلات المصاحبة: شرقية وغربية.

وفيما يشبه المفاجئة غير المتوقعة، وبينما أشعر بقلق على الفصول التي تركتها على مكتبي عن جغرافية بدو الصحاري المصرية في عام 1920 إذ بالفصل الثاني من الحفل يتضمن مقطوعات من العزف الموسيقي يدخل فيه بطل جديد إلى جوار د. رشا يحيى، فنان يرتدي زي الصعيد ويعزف على آلة الربابة.

قدمت د. رشا يحيى الفنان باسم “محسن الشيمي” فوقف بجوارها يرتدي زي الفنان الشعبي ويمسك ربابة فاخرة تصدر أصواتا بديعة وأخذ ينافس د. رشا يحي في عزف مقطوعات مصرية شرقية.

كانت دقائق فارقة تحدت فيها آلة الربابة الشرقية آلة الفيولا الغربية..وكسب الجمهور تلك المنافسة الرائعة.

دققت النظر في الفنان المصري المعاصر على المسرح، وحاولت أن ألتمس ملامح عم ربيع بعد خمسين سنة فلم أهتد إلى شيء.

هندام الفنان المصري ليلة أمس كان جميلا منظما وأنيقا، بينما كان عم ربيع يرتدي جلبابا لا أتذكر لونه، مفرط في البساطة والتماهي، لم يكن يشغلني في الحقيقة سوى الربابة التي يسندها على خصره، لكني أذكر عمامته البيضاء النحيلة.

ربابة عم ربيع كانت بسيطة وتعزف دوما ألحانا حزينة، ربابة أمس كانت فاخرة نشطة بالغة الروعة والاحتراف.

انتهى الحفل المبدع الذي تقوده د. رشا يحيى بأغنية “زهرة المدائن” إحياء لذكرى فلسطين.

عدت إلى بيتي منتصف الليل، وقد هاجت الذكريات القديمة، فتذكرت أمي بعينيها المكحلتين، فوق وجنتيها السمراوين، وتذكرت رفاق أبي الذين تلاعب بهم الزمن بين صعود وهبوط.

وتذكرت أنني في كل البلاد التي زرتها في سنوات عمري اللاحقة كنت أبحث عن سحر الربابة.

فعلت ذلك في معابد فيتنام البوذية، وكنائس روسيا، ومسارح المجر والبرازيل، بل وبحثت عن أشباه الربابة لدى قبائل موانزا في بحيرة فيكتوريا في رحلتي إلى منابع النيل قبل 10 سنوات.

وبين الشرق والغرب لم يكن هناك أبدا شيئا يشبه ربابة عم ربيع، لا شيء يشبه عيون أمي الكحيلة، فوق وجنتيها السمراوين.

شاهد أيضاً

المغرب

الــملــصـق المسرحي لمن ؟

نــجـيـب طــلال مـفارقات: أشرنا ما مرة، بأن هنالك ظواهر تخترق جسد المشهد المسرحي في المغرب، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.