الإثنين , أبريل 29 2024
ابراهيم منير حنا

السائق “الملقوط “

ابراهيم منير حنا

كان لأبي رحمه الله عادات غريبة كثيرا ما كنت اضحك منها …منها عندما كنت أعمل مهندسا في حلوان كنت أستيقظ فجرا لأغادر بلدتي اجا و أكون على مكتبي 7.5 صباحاً و في كل مرة كنت أستقل احد سيارات الأجرة القادمة من المنصورة إلي القاهرة من تحت منزلنا في أجا ، ولأن هذا الوقت كان مبكراً جداً فعدد الركاب

إلي القاهرة كان قليل ..فقد اتفقت مع سائق كان كل يوم يترك لي مكاناً خالياً ويأخذني معه

وكان أبي رحمه الله في كل مرة أذهب فيها إلي القاهرة يضحي براحته ونومه و يصر أن يستيقظ معي فجراً

بالرغم أن عمله يبدأ في المحكمة حوالي الساعة 9 صباحاً بل ويرتدي كامل ملابسه وينزل إلي مكتبه

الذي كان أسفل منزلنا و يقف في شباك مكتبه فجراً شتاءاً أو صيفاً و مهما طال بي الانتظار حتى استقل السيارة الأجرة، في هذا الوقت كنت شاباً صغيراً و كان هذا التصرف يدهشني ويضحكني في نفس الوقت ..فقد كان أبي يصر

في كل مرة أن يلتقط رقم السيارة ويدونه في ورقة !!..بالرغم أنها نفس السيارة ..ونفس السائق …وكان سائق السيارة يتعجب كثيراً عندما أركب معه كل يوم وبمجرد أن اغلق باب السيارة لا أستطيع مقاومة رغبتي قي الضحك

بينما انظر الي شباك مكتب أبي المفتوح وأبي يطل منه بلهفة واسى ملتقطاً أرقام السيارة التي أستقلها ..وبعد عدة محاولات ..لا أستطيع كتم رغبتي في الضحك بصوت عال..و في كل مرة كان السائق يسألني بصوته الأجش مستنكراً ..خير ؟؟..ضحكنا معاك يا أستاذ ..فكنت أخشى ان أقول له أنه ” ملقوط “..وأن أبي التقط

أرقام سيارته البائسة ..فقد يتجنبني فيما بعد ولا يقف لي خوفاً على نفسه من المسئولية..فكنت في كل مرة أقول للسائق الملقوط مطمئنا إياه ..سوق يا اسطي ..دي حاجة كدة سوف أخبرك بها فيما بعد .. ..ولكنني وفيما بعد كثيرا ما عاتبت أبي على هذا التصرف ..لأنني كبرت ولا يجب أن يتعامل معي وكأني طفل صغير سيتوه منه في الطريق .

ومرت الأيام ..وغادر أبي هذا العالم ..وبكيت..وانتهت أيام العزاء والحداد ..وكالعادة وككل فجر ..انتظرت لأستقل السيارة الأجرة التي تقلني إلي القاهرة ..وقفت غير مصدقاً وأنا أنظر بأسى وحسرة إلي الشباك المغلق أنتظر أن يطل منه أبي ..لا أصدق أن هذا الشباك كان مفتوحاً الأسبوع الماضي في نفس الوقت وأبي كان يطل منه

مازال عندي بعضاً من أمل أن ما مر بي قد يكون حلما ..كابوساً مزعجا…كنت أحدث نفسي وأقول لها..مطمئناً …نعم ..انه كابوساً و سأستيقظ من هذا الكابوس..وسأجد أبي ..نعم أبي سيرجع ويطل مرة أخرى من الشباك

وسيلتقط نمر هذه السيارة البائسة ..كنت أتمنى أن يفتح الشباك مرة أخرى و يطل علي ..وأعده هذه المرة لن أعاتبه ..وطال انتظاري..دون جدوى ..وفجأة وصلت نفس السيارة البائسة ونفس السائق الملقوط سابقاً

لتأخذني إلي القاهرة ..لكنني في هذه المرة كنت دموعي تغطي وجهي وأنا أحاول هذه المرة أن أمنع نفسي من المجاهرة بالبكاء أمام الركاب ..و فتحت باب السيارة ..وأخذت أنظر الي الشباك المغلق نظرة مودعاً ..أخذت أتأمل الشباك المغلق لعل أبي يخرج و يطل علي و يلتقط رقم السيارة فقط هذه المرة …كان مازال لدي بعض من أمل

وطال انتظاري لولا أن السائق الملقوط صاح بصوته الأجش .

منير حنا

فأيقظني من أوهامي …وصاح مستنكراً …ما تركب يا أستاذ !!!..و ركبت ..و أغلقت الباب وأخرجت رأسي من شباك السيارة وأخذت أنظر خلفي الي شباك أبي المغلق و هو يبتعد رويداً رويداً ..لكنني أخيراً لم أتمالك نفسي

وأجهشت في البكاء المرير…ونظر الركاب إلي..وصاح السائق الملقوط … متعجباً من تبدل أحوالي …وقال لي متعجباً و مستنكراً و قد تبدل صوته الأجش ..جرى اية يا أستاذ ؟؟..الأسبوع اللي فات بتضحك ..والنهارده بتعيط ؟؟….فيه اية .؟؟…انت حكايتك اية ؟؟…فأخذت أجفف دموعي وتمالكت نفسي و قلت للسائق الملقوط ..

سوق يا أسطى ..دي حاجة كدة سوف اخبرك بها فيما بعد ..في ذكرى وفاة أبي ..

رحم الله أبي ..هذا الإنسان الوحيد الذي أحبني أكثر من نفسه

ابراهيم منير حنا

شاهد أيضاً

المغرب

الــملــصـق المسرحي لمن ؟

نــجـيـب طــلال مـفارقات: أشرنا ما مرة، بأن هنالك ظواهر تخترق جسد المشهد المسرحي في المغرب، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.