محمد مختار
يُقدم عصام الشرقاوي نفسه كفنان بصريٍّ فريد، استبدل ريشة الكاتب الصحفي بعدسة الكاميرا، مُغادرًا عالم الكلمات المكتوبة ليُعانق واقع الصورة، مُنغمسًا بشغفٍ في التقاط أسرار وهموم إنسانية تتوارى بين الظلال وتتجسد في تدرجات الضوء. لم يكن هذا التحول مجرد تغيير في الأدوات، بل كان إعادة توجيه للبوصلة نحو عوالم غالبًا
ما تُغفل، عوالم المهمشين وأبناء الشوارع الذين وجد فيهم الشرقاوي مادة ثرية لحكايات بصرية تستحق أن تُروى.
يصف الشرقاوي علاقته بالكاميرا في بدايتها بأنها كانت “عتيقة”، لكنها كانت كافية لتدفعه خلال تنزهاته
على الشواطئ إلى رصد صراعات النوارس، وكفاح الصيادين، وحتى الاستماع إلى “موسيقى البحر”
كما وصفها، ليقرر أن يُترجم هذا العالم البصري المدهش عبر عدسته.
إيمانه بما يقوم به تجسد في تتويجه بجائزة النادي العربي للكاميرا عن صورته الأكثر تعبيرًا عن حياة الناس.
لم تتوقف عدسة الشرقاوي عند التقاط اللحظات العابرة، بل تعمقت في تفاصيل الحياة اليومية لفئات
غالبًا ما تكون مُغيبة.
رصد أطفالًا يُعيلون أسرهم، ونساءً من المناطق الشعبية وسجل جوانب من حياة الصيادين والباعة المتجولين والمشردين.
وقد كانت لقطة مؤثرة لأحدهم، وهو يتناول إفطاره الرمضاني وحيدًا على الرصيف
هي الصورة التي حصدت الجائزة، مُجسدةً لحظة إنسانية عميقة في خضم الوحدة.
يُشير الشرقاوي إلى مواظبته على لقاء هؤلاء المهمشين على كورنيش الإسكندرية
في نهاية كل يوم عمل، حيث يُقيم معهم صداقات غالبًا ما تُختتم بموافقتهم على أن يكونوا جزءًا
من نصوصه البصرية.
إنه يتعامل مع الصورة باعتبارها “نصًا بصريًا يمكن تفكيكه وقراءته”، أو “لقطة تروي حكاية”
مؤمنًا بقوة الصورة في سرد الروايات الإنسانية.
يُرجع الشرقاوي هذا التحول في مسيرته الفنية إلى ملاحظة الناقد والكاتب الصحفي زكريا محيي الدين
لشغفه بالتصوير، والذي ألحقه بورشة عمل لتعلم فنون وجماليات وقواعد التكوين.
خلال هذه الورشة، تنبأ له محيي الدين بالانحراف عن الصحافة والاتجاه نحو الكاميرا، وهو ما حدث بالفعل.
وفي سياق اللحظات العفوية التي قد تفوتها الكاميرا، يذكر الشرقاوي بأسى لقاءات عابرة بشخصيات تُشبه نجومًا عالميين، لكن دون أن يتمكن من توثيقها بعدسته.
هذا يؤكد على يقظة عينه وقدرته على التقاط الجمال والغرابة في تفاصيل الحياة اليومية.
ومن خلال ما رصده محمد طلعت الجندي، أستاذ الأدب المقارن لفلسفة الشرقاوي في التصوير وانحياز عدسته
لعالم المهمشين، واصفًا صورته بأنها “نص حكائي يمتلك تقنيات سردية وذلك بعد أن وصف الجندي عصام الشرقاوي بأنه ” مؤلف صورة” وبذلك يكون الشرقاوي وفقا لهذا التحليل النقدي هو مؤلف الصورة العربي
الوحيد حتى لحظة كتابة هذا المقال واعتبر الجندي أن النص الحكائي عند عصام الشرقاوي له نفس
عناصر السرد التي يمتلكها النص الأدبي”.
ويرى الجندي أن الشرقاوي يمتلك “لغة مرئية” فريدة، وأنه “أعاد اكتشاف نفسه” واستفاد من عمله الصحفي في “إعادة صياغة المتناثر في الحياة” من خلال حكاية
ملامح المصريين المختلفة في الصورة وهنا يمكن تحليل عناصر ” نص الصورة ”
عند عصام الشرقاوي على النحو التالي :
الصورة كنص حكائي :
تجاوز المفهوم التقليدي للصورة: يرى الجندي أن صورة الشرقاوي تتجاوز كونها مجرد تسجيل بصري للواقع
بل هي بمثابة “نص حكائي”. هذا يعني أن الصورة تحمل في طياتها قصة، شخصيات، صراعًا، أو حالة إنسانية يمكن “قراءتها” وتفسيرها.
التقنيات السردية في الصورة: المقارنة بالنص الأدبي تشير إلى أن الشرقاوي يستخدم في تكويناته البصرية تقنيات سردية مشابهة لتلك الموجودة في الأدب.
قد تشمل هذه التقنيات:
التكوين: ترتيب العناصر داخل الإطار لخلق معنى أو توجيه انتباه المشاهد.
الإضاءة والظل: استخدامها لخلق جو معين، إبراز شخصيات، أو إضفاء عمق درامي.
الزاوية: اختيار زاوية تصوير معينة لنقل وجهة نظر أو إظهار علاقات بين العناصر.
اللحظة الحاسمة: التقاط لحظة ذات دلالة خاصة تحمل في طياتها قصة كامنة.
تعبير الوجه ولغة الجسد: التركيز على تعابير الأشخاص وحركاتهم لسرد جزء من حكاياتهم الداخلية.
انحياز العدسة لعالم المهمشين:
التركيز على الفئات المُغيبة: يلاحظ الجندي أن عدسة الشرقاوي لا تلتفت إلى المناظر الطبيعية الخلابة أو الحياة البرجوازية المعتادة، بل تنحاز بشكل واضح إلى “عالم المهمشين”.
هذا الاختيار يعكس وعيًا اجتماعيًا ورغبة في تسليط الضوء على حياة وقضايا الفئات الأكثر ضعفًا وتجاهلًا في المجتمع.
منح صوت لمن لا صوت له: من خلال تركيزه على المهمشين، يمنحهم الشرقاوي حضورًا و”صوتًا” مرئيًا.
تصبح صوره بمثابة شهادات بصرية على وجودهم وتجاربهم الإنسانية.
اللغة المرئية الفريدة :
إتقان مفردات و”حروف” الضوء: يشير الجندي إلى أن الشرقاوي يمتلك “لغة مرئية” خاصة به، وأنه يتقن استخدام عناصر التصوير (“مفرداتها”) والتقاط اللحظات الضوئية الحاسمة (“حروفها الضوئية”) بمهارة عالية.
هذا يدل على امتلاكه رؤية فنية مميزة وقدرة على التعبير البصري بفاعلية.
إعادة اكتشاف الذات والاستفادة من الخلفية الصحفية:
تحول مُلهم: يرى الجندي في انتقال الشرقاوي من الصحافة إلى التصوير “إعادة اكتشاف للذات”. هذا التحول لم يكن قطيعة تامة، بل كان استثمارًا لمهاراته وقدراته في وسيط تعبيري جديد.
تأثير العمل الصحفي: يؤكد الجندي على أن خلفية الشرقاوي الصحفية لم تذهب سدى، بل ساهمت في رؤيته الفوتوغرافية.
ربما أكسبته الصحافة حسًا بالقصة، القدرة على البحث عن الحقيقة، والتعاطف مع القضايا الاجتماعية، وهو ما انعكس في اختياره لمواضيعه وطريقة تصويره.
إعادة صياغة المتناثر في الحياة:
تجميع الشتات البصري: يرى الجندي أن الشرقاوي يتمتع بقدرة على التقاط اللحظات العابرة
والتفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية (“المتناثر في الحياة”) وإعادة صياغتها في صور ذات معنى وقيمة.
حكاية ملامح المصريين: يركز بشكل خاص على قدرة الشرقاوي على التقاط “حكاية ملامح المصريين المختلفة”.
هذا يشير إلى أن صوره لا تقتصر على تسجيل الواقع، بل تلتقط جوهر الشخصية المصرية بتنوعها وتعبيراتها الفريدة.
باختصار، تحليل الدكتور محمد طلعت الجندي يضع عصام الشرقاوي في مكانة الفنان الفوتوغرافي
الذي يمتلك رؤية إنسانية عميقة وقدرة فنية فائقة.
إنه لا يلتقط صورًا فحسب، بل يروي حكايات بصرية مؤثرة، مُركزًا على الفئات المهمشة
ومستفيدًا من خلفيته الصحفية في إعادة تشكيل وفهم الواقع من خلال عدسته.
وصفه للصورة بأنها “نص حكائي” يؤكد على قوة الصورة في نقل المعاني والروايات،
وأن الشرقاوي يتقن هذه اللغة المرئية ببراعة.
بهذا، يبرز عصام الشرقاوي كفنانٍ استثنائي، استطاع بصدق وعدسة بصيرته أن يُعيد صياغة اللحظات المتناثرة
في الحياة، وأن يمنح وجوهًا مهمشة صوتًا مسموعًا وحضورًا مرئيًا، مؤكدًا على قوة الصورة كلغة إنسانية قادرة على تجاوز حدود الكلمات.

الشكر والتحية للأستاذ مختار كاتب المقال لنقل بعض ثمرات الأستاذ الشرقاوي ، وحقا ودون مبالغة في القول إن الشرقاوي فنان حقيقي يمتلك عدسة بعين إنسانية ترى مالا يراه الآخرين في الصورة البشرية بكل أبعادها من لحظات فرح وطرح وفكر فهلوي مصري وفقر مصري يومي ، ولعل هذه أهم ميزة في موهبة الشرقاوي رصده للفكر والفقر بالنكهة المصرية عبر لوحاته التصويرية التي تتسم بقدر فائق لسرد حياة المصريين !! لذلك كان علينا جميعا دعم الشرقاوي للانتباه لما يملك من موهبة خاصة في أحد أهم الفنون التعبيرية المصورة لحياة البشر ، وأعتقد من الأنسب أن يتم وضع صور الشرقاوي ضمن دفتي ديوان الصورة مثله مثل ديوان الشعر .. لكن آفة ثقافتنا الإهمال والاستبعاد تحت ركام الانشغال اليومي القاسي الذي لايرحم الفنانين الأصلاء ..
أرجو من الأستاذ الشرقاوي الاستمرار وترك شيب العمر خلف ظهره ويعود لشباب الكاميرا وفهلوتها في رصد حكايات ومقامات المصريين .. وأرجو من الأستاذ مختار أن يثبت قلمه على أمثال الشرقاوي فمصر أم الموهبين !
شكرا د. محمد طلعت الجندى وشكرا للمبيعات محمد مختار