واصف ماجد
تُحيي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تذكار استشهاد القديس الأنبا موسى الأسود في 24 بؤونه، وهو أحد أبرز رموز التوبة الجذرية في التاريخ الكنسي، إذ تحوّل من مجرم عنيف إلى قديس يُضرب به المثل في النسك والاتضاع، لتجسّد سيرته رسالة كنسية متجددة مفادها أن باب التوبة لا يُغلق أبدًا أمام أي إنسان، مهما بلغ من السقوط.
بحسب ما ورد في السنكسار القبطي، كان موسى في بداياته عبدًا لقبيلة وثنية، اتسم بالعنف والشر والقتل
حتى أنه اشتهر بين معاصريه بعدم قدرة أحد على مواجهته.
لكن داخله المضطرب كان يحمل تساؤلات عن الإله الحقيقي، حتى قاده صوته الداخلي إلى رهبان وادي النطرون.
وهناك، على يد القديسين إيسيذوروس ومقاريوس الكبير، دخل في سر المعمودية
وتدرّج في الحياة النسكية بشغف فاق المتوقع، فصار نموذجًا حيًا لقول المسيح:
«الحق أقول لكم: إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله» (مت 21: 31).
تشير المصادر الكنسية إلى أن الشيطان لم يكفّ عن محاربة موسى حتى بعد توبته، سواء بإغرائه
بالملذات السابقة، أو بضربه بمرض شديد، لكن القديس واصل جهاده بلا تراجع.
وكان يملأ جرار المياه لإخوته في الخفاء، ويقول عن نفسه: “يا أسود اللون، مستحق أنت الإهانة”
في مشهد يعكس عمق الاتضاع الروحي
الذي بلغه، حتى وصفه البابا الذي رسمه قسًا بقوله: “يا موسى، لقد صرت الآن كلك أبيض”.
ويُعد مشهد استشهاده ذروة هذا التحول، إذ رفض الهروب من البربر، قائلاً لإخوته: “أنا أنتظر هذا اليوم
منذ عدة سنين”، فاستشهد مع سبعة من تلاميذه، بينما خرج أخ ثامن كان مختبئًا بعدما رأى ملاكًا يحمل إكليل الشهادة، فقتل هو الآخر.
هذا النموذج الفريد يجد صداه في مواضع أخرى من التقليد الكنسي، فالكنيسة القبطية تحتفي بمسيرة قديسين
آخرين ساروا درب التحول العميق.
فالقديس أوغسطينوس، رغم خلفيته الفلسفية الوثنية وانغماسه في حياة الخطيئة، صار أحد أعمدة اللاهوت.
وكذلك القديسة بيلاجية التائبة التي بدأت حياتها كإمرآة شهيرة تغوي القلوب، ثم صارت ناسكة
تذرف الدموع في مغارتها.
ويعود هذا الانفتاح إلى فهم الكنيسة العميق لعبارة المسيح : «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى»
(مت 9: 12).
وفي تقليدها الرعوي والليتورجي، لا تفصل الكنيسة بين الإيمان و حياة التوبة و النقاوة
بل تعتبر الأخيرة المدخل الفعلي للحياة المسيحية.
فتُفتَتح مزامير الأجبية – كتاب الصلوات اليومية – بالمزمور 50: “ارحمني يا الله كعظيم رحمتك”
ويُقرأ في مقدمة كل ساعة من صلوات الأجبية وفي كل الصلوات الليتورجية الكنسية
وكأنه تذكير دائم بأن القداسة ليست نقطة انطلاق فحسب ، بل ثمرة لنعمة مقبولة بتواضع القلب
والجهاد الروحى في النعمة .
ويحتفظ دير البرموس بجسد القديس موسى حتى اليوم، حيث تُقام التذكارات ويقصده الزائرون
لا لمجرد طلب الشفاعة، بل للإلهام بسيرته التي تفتح أفق الرجاء أمام اليائسين. فالأنبا موسى لم يكن فقط “الأسود”
بحسب لونه أو ماضيه، بل صار “القوي” بحسب النعمة، كما تسميه الكنيسة: “بي جوري أفا موسى”، أي القوي بالله.

الأنبا موسى الأسود 
الأنبا موسى الأسود 
الأنبا موسى الأسود
جريدة الأهرام الجديد الكندية
