الثلاثاء , ديسمبر 9 2025
الكنيسة القبطية
السيدة العذراء

صوم السيدة العذراء بين التقديس والأسطورة والتراث

واصف ماجد

تحقيق ليتورجي وتاريخي يوضح خصوصية الصوم الأحدث في الكنيسة القبطية ومدى مشروعيته بين أصوام العهد الأول

رغم أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تعرف عدة أصوام رئيسية ذات طابع قانوني، كالخماسين والأربعين المقدسة، إلا أن صوم السيدة العذراء، والذي يمتد من أول مسرى حتى 15 منه، يظل حالة خاصة في الوعي القبطي الجمعي.

فهو ليس من الأصوام المفروضة، ولم يرد له ذكر في قوانين الآباء الرسل أو المجامع الأولى

لكنه مع ذلك يحظى بشعبية كبرى ومكانة روحية عميقة، حتى صار من أبرز معالم شهر مسرى لدى الأقباط.

كتاب “أصوامنا بين الماضي والحاضر” للقس كيرلس كيرلس، وهو مرجع معاصر في دراسة جذور الأصوام القبطية، يصف صوم العذراء بأنه “الصوم الوحيد الذي لا تُلزِم به الكنيسة شعبها”.

لا يندرج ضمن الأصوام الأربعة الكبرى (الصوم الكبير، صوم الرسل، صوم الميلاد، وصوم نينوى)، ولا يرتبط بعقيدة مركزية أو حدث فدائي، ورغم ذلك يحتل مكانة عاطفية وروحية لدى قطاعات واسعة من المؤمنين.

ويرى المؤلف أن التوسع في ممارسة هذا الصوم يعود إلى المحبة الشخصية للعذراء، وليس إلى فرض كنسي ملزم.

ومن اللافت أن هذا الصوم هو الوحيد الذي يتكرر بشأنه تساؤل تقليدي: “هل الكنيسة فرضته أم الشعب؟”، وهو سؤال يبدو بريئًا لكنه يحمل في طياته إشكالاً ليتورجيًا واسعًا.

فحين يتجذر صوم أو طقس في الوجدان الشعبي إلى حد تحوله إلى ممارسة جماعية مستقرة، يصبح من الصعب التمييز بين ما هو نابع من وعي شعبي تعبدي، وما هو معتمد من سلطة كنسية رسمية.

سبعة آراء في منشأ الصوم

بخلاف سائر الأصوام القبطية، لم يحظ صوم العذراء بإجماع واضح في ما يخص أصله وتأسيسه، وهو ما يظهر جليًا في التعدد المثير للآراء حول خلفيته، وقد أحصى الباحثون سبعة آراء رئيسية متداولة في هذا الصدد:

الرأي الأول ينسب تأسيس الصوم إلى العذراء مريم نفسها، التي قيل إنها صامته نسكًا وحزنًا واضطهادًا من اليهود بعد صعود السيد المسيح، وكانت تصحَب معها بعض العذارى للصلاة عند القبر المقدس.

الرأي الثاني يرجع الأمر إلى الكنيسة، التي فرضت الصوم كنوع من الإكرام للعذراء، المطوبة من جميع الأجيال.

بينما يرى الرأي الثالث أن الرسل هم من رتبوا هذا الصوم تحديدًا تكريمًا لعيد نياحة السيدة.

وهناك رأي رابع يشير إلى أن الرسل اشتهوا أن يروا جسد العذراء، كما رآه توما، فصاموا خمسة عشر يومًا لهذا السبب.

أما الرأي الخامس فيعيد أصل الصوم إلى ممارسة نسكية ابتدأتها العذراء بنفسها، ثم تناقلها المسيحيون

الأوائل، ووصلتنا بالتقليد.

الرأي السادس يذهب إلى أن هذا الصوم كان سائدًا شعبيًا منذ القديم، وأقرّه المجمع المسكوني الثالث بالقسطنطينية سنة 381م.

الرأي السابع، وهو الوحيد المؤيد بوثائق تاريخية قبطية، يربط نشأة الصوم بالعذارى والمتنسكات، اللواتي مارسن صومًا تعبديًا خاصًا للعذراء، ثم شاع تدريجيًا حتى تبنّته الكنيسة في ما بعد.

هذا الرأي الأخير يؤيده كبار علماء الطقس الأقباط، مثل ابن العسال، والعلامة أبو المكارم سعد الله، والعلامة ابن كبر.

وهم جميعًا يجمعون على أن صوم العذراء نشأ من خارج المنظومة الطقسية الرسمية، لكنه ترسّخ مع الوقت.

صوم تطوّر عبر العصور

تشير الدراسات التاريخية إلى أن أول إشارة معروفة لهذا الصوم تعود إلى كتاب “مصباح العقل” للأنبا ساويرس بن المقفع، أسقف الأشمونين في القرن العاشر، والذي تحدث عن صيام يوم واحد فقط هو 15 مسرى، أي يوم عيد العذراء. ولم يرد في كلامه أي إشارة إلى صيام يمتد لأسبوعين.

وبحسب القس كيرلس كيرلس، فإن مدة هذا الصوم قد مرّت بمراحل ثلاث: بدايةً بثلاثة أيام، ثم أسبوعين، ثم استقر على خمسة عشر يومًا، وهي المدة الحالية.

كما يذكر أن البابا غبريال الثامن جعل هذا الصوم اختياريًا، ما يعكس أن حتى في فترات لاحقة، لم يكن الصوم يُعامل كفرض واجب، بل بقي ضمن دائرة النسك الطوعي.

ويُلاحظ أن جميع قوانين الكنيسة الأولى تجاهلت هذا الصوم، رغم أنها تناولت بالتفصيل أصوامًا أخرى.

فلم يُذكر لا في الديداخي (تعليم الرسل)، ولا في قوانين هيبوليتس، ولا في كتابات البابا أثناسيوس الرسولي، ولا حتى في مجموعة قوانين البابا غبريال بن باتريك في العصور الوسطى. وهو ما يُعزز الطرح القائل بأن الصوم نشأ من المحبة الشعبية وليس من فرض كنسي.

نسك تعبدي بروح جماعية

رغم غياب السند القانوني المبكر، إلا أن صوم العذراء حظي بقبول روحي واسع، وارتبط في وجدان المؤمنين بطلب شفاعة العذراء، والتماس معونتها، وامتلاك بعض فضائلها. بل إن ارتباطه بعلامات نسكية معينة، كالصلاة عند المزارات أو تلاوة المدايح، جعله صومًا شعبيًا لا يخضع للقياسات الطقسية المعتادة.

ويشير القس كيرلس إلى أن بعض الناس ربطوا هذا الصوم بموسم المذاكرة والامتحانات، وأحيانًا بطلبات خاصة أو نذور، ما أضفى عليه طابعًا وجدانيًا أكثر من كونه ممارسة طقسية مضبوطة.

بين الواقع الطقسي والرمزية الروحية

التمييز بين ما هو ليتورجي وما هو تعبدي يظل مفتاح فهم موقع هذا الصوم في الإطار الكنسي.

فهو وإن لم يأتِ من المجامع الأولى، ولم يُذكر في قوانين الرسل، إلا أن استقراره كعادة نسكية شعبية، وممارسة جماعية طوعية، منحه مشروعية وجدانية يصعب إنكارها.

وفي النهاية، قد لا يكون من الضروري أن نبحث في مدى إلزامية هذا الصوم أو في طابعه القانوني، بقدر ما يهمّنا ما يمنحه من فرصة للدخول في عمق الحياة الروحية، وطلب شفاعة والدة الإله، التي بقيت عبر القرون عنوانًا للنقاوة والطهر والمثال الحي للتسليم الكامل لمشيئة الله.

شاهد أيضاً

الجمعية المصرية الافريقية للتنمية والتكنولوجيا

بالصور : فعاليات “إرادة وعزيمة” بقاعة المؤتمرات مركز التعليم المدني بوزارة الشباب والرياضة

متابعة أكرم عياد من الجمعية المصرية الافريقية للتنمية والتكنولوجيا واكدت دكتورة حنان عطية رئيس مجلس …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.