الجمعة , ديسمبر 5 2025
الكنيسة القبطية
ماجد سوس

الحق فوق التوازنات

ماجد سوس

في دولة القانون، يظل تحقيق العدالة هو الغاية التي تستمد منها المحاكم مهابتها واحترامها، وهي الغاية التي لا يجوز التفريط فيها تحت أي ظرف أو مبرر.

فالأحكام القضائية ليست مجرد نتائج لإجراءاتٍ شكلية، بل هي صكوكٌ تحدد مصائر البشر، وتؤثر مباشرة في حياة الأسر والمجتمع.

ومن هذا المنطلق تأتي أهمية التزام القضاء بمبادئ العدالة الطبيعية وسيادة القانون، مع التأكيد الكامل على أن الحديث عن أي خطأ قضائي لا يُعد بحال من الأحوال تعميمًا أو انتقاصًا من المؤسسة القضائية

التي تضم الكثير من القضاةً النزهاء يحملون أمانة الحكم أمام الله والناس.

غير أن الواقع يُظهر – في بعض الحالات المؤلمة – أن ميزان العدالة قد يميل بفعل ضغطٍ خارجي سواء مجتمعي

أو أمني، أو قصورٍ في تقدير الأدلة أو كفايتها أو قصور في البحث الدقيق المتأني لإجلاء الحقيقة

من سماع شهود إثبات أو نفي أو مشاهدة الكاميرات او أن تنتقل المحكمة بنفسها إلى مسرح الجريمة

الأمر الذي يفرض على رجال القانون واجب التنبيه والتصحيح، حفاظًا على الحق، وحمايةً لسمعة العدالة ذاتها.

ومن بين هذه القضايا تبرز قضية صبري والطفل ياسين، وهي قضية أدمت قلوب كثيرين لما شابها

من ملابسات تدعو إلى إعادة النظر، إذ إن الأدلة الفنية والواقعية – وفق ما طالعناه في أوراقها – لا تقطع

بثبوت الاتهام في حق المتهم، بل تميل إلى تبرئته، فهناك اعتراف السيدة التي قامت بتأليف القصة والمحبوسة الآن

وهناك الطبيب الشرعي وتقريره الذي لم يجزم بحدوث الواقعة مع عدم وجود شهود إثبات والأخذ فقط بأقوال

الطفل بالرغم أن هذا الطفل قدم له ثلاث رجال من بينهم المتهم على ثلاث مرات في كل مرة اختار شخص مختلف

وعلى الرغم من أن مبنى الحضانة منفصل بسور عن مبنى الإدارة ولا يقترب احد منه سوى المدرسات

والمشرفات ولا توجد كاميرا او شخص واحد شاهد المتهم.

أما فوق كل ما سبق وما يثير العجب هو أن النيابة العامة قامت بالتحقيق مع الطفل والأهل

والموظفين بعدها أصدرت الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى.

هذا الأمر الذي كان السبب في براءة مبارك من تهمة قتل المتظاهرين لأنه لا يجوز إعادة التحقيق

إذا صدر هذا الأمر إلا في استثناءات محددة أعطاها القانون للنائب العام أو لمحكمة الاستئناف المنعقدة

في غرفة المشورة فقط إذا ظهرت أدلة جديدة.

وهو ما فعلته المحكمة رغم عدم وجود أي جديد في التحقيق.

الرجل الذي حكمت عليه محكمة أول درجة بالأشغال الشاقة المؤبدة ثم عدلته محكمة الاستئناف

نظرا لكبر سنه لعشرة سنوات، لم يعد أمامه إلا الطعن بطريق النقض،

وهو الطريق الاستثنائي الذي خُصِّص لتدارك الأخطاء الجسيمة في تطبيق القانون أو في تقدير الأدلة أو في سلامة التسبيب.

ونحن نأمل أن تقبل محكمة النقض هذا الطعن، وأن تُعمِل سلطتها المقررة لها قانونًا في التصدي

لموضوع الدعوى إن تبين لها أن الحكم قد بُني على خطأ بيّن أو افتقر إلى التسبيب الكافي

وأن تتحقق العدالة المفقودة في هذه القضية، التزامًا بمبدأ أن الشك يُفسَّر دائمًا لمصلحة المتهم

وأن الحرية لا تُقيَّد إلا بيقينٍ قاطع لا يداخله احتمال.

ولا يفوتنا التأكيد على قاعدة قانونية وأخلاقية لا يختلف عليها اثنان: لا يجوز تســييس الأحكام القضائية

ولا يمكن أن يُظلم إنسان بدعوى التوازنات أو تهدئة الرأي العام.

فالقضاء ليس طرفًا في الصراع المجتمعي، ولا أداة لإرضاء طرفٍ أو إسكات آخر؛ بل هو سلطة مستقلة لا سلطان عليها إلا القانون.

والعدالة لا تُقاس بمدى إرضاء الجماهير، بل بمدى اتساق الحكم مع نصوص القانون وروحه، ومع حقائق الواقع وأدلة الدعوى.

فالحق فوق الأمة، والقانون فوق الجميع، وأي عدول عن هذا المبدأ يهدم دعائم الدولة ويقوِّض ثقة المواطن في قضاء بلده.

وفي النهاية، ليس مطلبنا سوى العدالة، ولا غايتنا إلا إعلاء سيادة القانون وصون كرامة الإنسان.

ونأمل أن تجد هذه الصرخة القانونية طريقها إلى ضمير العدالة، وأن تستعيد هذه القضية مسارها الطبيعي

بما يطمئن المجتمع ويحفظ هيبة القضاء ويعيد الحق إلى نصابه.

شاهد أيضاً

كلية النصر للبنات

علاء ثابت مسلم يكتب : ماذا سأفعل لو أصبحت وزيرا للتعليم ؟!

طرحت عليّ إحدى طالباتي سؤالاً يبدو بسيطاً لكنه يحمل ما وراءه:”لماذا لا تصبح وزير التربية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.