الجمعة , أبريل 26 2024
أخبار عاجلة

قصة البابا مع السفير .

البابا

الكاتب : مايكل عزيز البشموري

علينا الرجوع إلي ذاكرة التاريخ لمعرفة بداية النهضة المصرية ، تلك النهضة التي بدأت عندما تحرر الاقباط من قبضة الحكام والسلاطين ابان الفتح العربي لمصر ، فقد تم تهميش دور القبطي بتلك العصور لينحصر في دفع الجزية طيلة 1000 عام ، إلي أن جاء محمد علي باشا ليغير مجري التاريخ ويعيد بناء مصر الحديثة بأيدي أبناءها الشرفاء من المسلمين والاقباط ، وتلك كانت البداية الحقيقية لنهضة مصر .

نقطة البداية تبدأ من القرن السابع عشر حيث كانت روسيا تعيش أفضل عصورها الذهبية آنذاك ،فقد وهبها الله بملوك أجلاء كانوا يريدون توحيد الدول المسيحية ذات المذهب الارثوذكسي وضمها في دولة واحدة وتكوين إمبراطورية تقوم علي العدل والمساواة ، وفي عام 1801 تولي عرش روسيا القيصر ألكسندر الأول إمبراطور روسيا العظمي . وقام هذا القيصر في بداية حكمه بإصلاحات ليبرالية معتدلة. وفي عهده انضم إلى روسيا كل الدول الأرثوذكسية كجورجيا وفنلندا وبيسارابيا وأرمينيا وجزء كبير من أذربيجان . أهتم هذا القيصر بإصلاحات عديدة نفعت بلاده ففي عهده قد أولى اهتماما كبيراً بالتعليم والتنوير. وخلال سنوات حكمه جرى افتتاح جامعة قازان ، وجامعة خاركوف ،والمعهد العالي للعلوم بياروسلاف . وكذلك المدرسة الثانوية الشهيرة “لتسييه” في تسارسكويه سيلو (بلدة بوشكين حالياً) التي تخرج منها فيما بعد الكاتب الروسي الكبير الكسندر بوشكين. وفي عهده تمّ السماح باستيراد الكتب من أوروبا وإنشاء مطابع خاصة، كما أُسّس مجلس الشيوخ الذي كان بمثابة هيئة رقابية وقضائية في منظومة إدارة الدولة، كما تم تكليف أحد كبار المسؤولين (نيكولاي نوفوسيلتسيف) بإعداد مسودة الدستور الروسي .

ويعتبر الكسندر الاول أحد أهم قياصرة روسيا في عصرها الحديث وهو محرر أوروبا وقاهر جيوش نابليون ، حيث أراد نابليون بونابرت وهو قائد عسكري وإمبراطور فرنسا أراد التربع علي عرش الأمم ، وتوهم بأنه قادر أن يغزو الإمبراطورية الروسية فقام في عام 1812 بغزو أراضي الامبراطورية الروسية متحدياً قيصرها الكسندر الاول ، وفي السابع من يناير/كانون الثاني من عام 1813 أصدر الإمبراطور ألكسندر الأول بيانا أعلن فيه طرد العدو من أراضي الإمبراطورية الروسية ، وعندما دخل نابليون موسكو كان أهلها قد غادروها مدمرين إياها فكان جيشه جائعا متعبا يعاني من برد الشتاء في روسيا، وتبين بتحليل أسنان جنوده الذين قتلوا هناك وعددهم 25 ألفا أنهم أصيبوا بمرض التيفوس وحمى الخنادق وهي أمراض تنتقل عن طريق القمل. واضطر نابليون بعد مرور عدة اشهر لإقامته في موسكو الى مغادرتها . وقبل عودته الى فرنسا وقعت عدة معارك بين القوات الفرنسية والروسية حيث انهزم نابليون وترك قواته وهرب. وتعد الحملة التي قام بها نابليون على روسيا عام 1812م بداية النهاية لهذا القائد الكبير ، حيث كان لها تأثيرا سلبيا عميقا على الجيش الفرنسي وكفاءته، كما أنها شهدت مقتل وإصابة مئات الآلاف من الجنود الفرنسيين والمدنيين على حد سواء . وفي 19 مارس/آذار عام 1814م دخلت القوات الروسية العاصمة الفرنسية مدينة باريس. وكان على رأس تلك القوات المنتصرة القيصر الروسي الكسندر الاول .

قصة البابا مع السفير الروسي :
أراد قيصر روسيا الكسندر الأول تحرير الأقباط الأرثوذكس من قبضة الحكم العثماني الطاغي الذي كان موجوداً آنذاك ، فقام بإرسال السفير الروسي إلي بطريرك الأقباط الأرثوذكس ، وكان جالسا على عرش القديس مرقص حينها البابا بطرس الجاولي البطريرك رقم 109 ليعرض له السفير الروسي حماية الإمبراطورية الروسية للأقباط الأرثوذكس ، كان ذلك فى عام 1809 ميلادية تقريباً ، فذهب السفير الروسي مع مترجم خاص به إلى الدار البطريركية ظناً منهم أنهم سيرون رئيس أكبر كنيسة مسيحية أرثوذكسية بأفريقيا بحالة تدل على عظمة، وكانت أخبار هذه الزيارة قد وردت إلى البابا من قبل ولكنه لم يأبه لها، ولما وصل السفير الروسي مع مترجمه الخاص ظن السفير أنه لا بد وأن يتم استقباله استقبالا رسمياً ولا بد ان يكون قد وصل للبابا أن زائراً عظيما وممثلاً لدولة كبيرة يريد مقابلته وكانت المفاجأة إنهم رأوه إنسانًا بسيطا يحمل الكتاب المقدس بين يديه يقرا فيه وهو يرتدى زعبوطا خشنا جالساً على دكة خشبية وحوله مقاعد مبعثرة، وهنا تساءل السفير في عقله : ” هل هذا الرجل البسيط رئيس الأقباط ورئيس أكبر كنيسة مسيحية بأفريقيا ؟؟؟ ” فسأله السفير الروسي في شك: “هل أنت البطريرك”؟! فأجابه البطريرك القديس بكل محبة وإتضاع : ” أنا البطريرك بنعمة المسيح ” تفضل وأجلس ودعا الخدام بتقديم واجب الضيافة إليه ، فأندهش السفير ومترجمه فقاموا بتحية الأب البطريرك كعادتهم في بلادهم ، فبدأ السفير ينظر اليه وهو لا يصدق أنه يجلس مع البطريرك وبدأ السفير يسأله لماذا يعيش بطريرك الأقباط بهذه البساطة ولا يهتم بمركزه في العالم المسيحي ؟ . – فأجابه البابا : (ليس الخادم أفضل من سيده، فأنا عبد يسوع المسيح الذي اتى إلى العالم وعاش مع الفقراء ولأجلهم، وكان يجالس الخطاة ولم يكن له ابن يسند رأسه، أما أنا فلي مكان أقيم فيه واحتمى فيه من حر الصيف وبرد الشتاء، لم يكن للمسيح ارض ولو أنه ملك السماء والأرض ولم يكن له مخزن فيه مؤنه، وها أنا آكل وأتمتع فهل هناك أفضل من هذا ) . تعجب السفير من كلام البطريرك هذا وأبتدأ يعرض على بابا الأقباط حماية قيصر روسيا الكسندر الأول لأقباط مصر . وبكل بساطة قال البابا له : هل ملككم يحيا إلى الأبد؟ – قال له السفير : لا يا سيدي البابا بل هو إنسان يموت كما يموت سائر البشر. – فأجابه البابا: “إذن أنتم تعيشون تحت رعاية ملك يموت وأما نحن تحت رعاية ملك لا يموت وهو الله”. حينئذ لم يسع للسفير الروسي إلا أن ينطرح تحت قدميه واخذ يقبلها وتركه وهو يشعر بعظمة هذا الرجل البسيط ، وعندما ذهب السفير لمحمد علي باشا والي مصر آنذاك سأل الوالي السفير الروسي : ما هو الشيء الذي أعجبك في مصر ؟؟ . – فرد السفير وقال ” لم تدهشني عظمة الأهرام ولا ارتفاع المسلات، ولم يهزني كل ما في هذا القطر من العجائب بقدر ما هزني ما رأيته في بطريرك الأقباط . ولما سمع محمد علي بما حدث في هذه المقابلة فرح جدا وذهب إلي البابا بطرس الجاولي ليهنئه على موقفه وما أبداه من الوطنية الحقة، فقاله له البابا : (لا تشكر من قام بواجب عليه نحو بلاده) فقال له محمد علي والدموع في عينيه : (لقد رفعت اليوم شأنك وشأن بلادك فليكن لك مقام محمد علي في مصر، ولتكن مركبة معدة لركبك كمركبته).

بعد تلك الواقعة تيقن محمد علي باشا بأن الأقباط شعب مخلص ووطنيين ،فإعتمد عليهم في بناء مصر الحديثة مع أشقائهم في الوطن من المسلمين ، فقام بإلغاء الجزية التي كان يدفعها الأقباط طيلة 1000 عام ، وعين الأقباط بالدوائر والمصالح الحكومية ، وأرسل البعض منهم لبعثات دراسية خارج البلاد ، وأنخرط الأقباط بالجيش المصري الحديث لإول مرة في التاريخ الحديث . فكانت تلك الخطوات هي اللبنة الاولي لبناء دولة عصرية حديثة أسسها محمد علي وأبناءه فضُمنت حقوق الاقباط وتمتعوا بالحرية السياسية كمواطنين مصريين من الدرجة الاولي . ولم يقتصر دور الاقباط ابان تلك الحقبة التاريخية بتولي الاعمال الحكومية وحسب ، بل كان للاقباط دور فعال في الحياة السياسية المصرية ، فكنا نسمع أنه كان يوجد في يوما من الايام وزير خارجية قبطي ، ورئيس وزراء قبطي ( بطرس غالي باشا ) ، ورئيس مجلس شعب قبطي ( ويصا واصف باشا ) ، ويعتبر المؤرخين الاقباط : أن المسيحيين المصريين عاشوا عصرهم الذهبي بالحقبة التاريخية ما بين عام 1805 إلي 1952 ، أي بدءً من تولي محمد علي وعائلته حكم مصر ، مروراً بإنتهاء حكم أخر أحفاده الملك فاروق الاول عندما قامت ثورة 1982 ليقوم الضباط الاحرار بنفي الملك فاروق وعائلته خارج البلاد وقيام النظام الجمهوري الجديد ، وقد عمل النظام الجديد في مصر علي تهمييش الاحزاب والحركات السياسية ، وألغيت مظاهر الحياة الديمقراطية الممثلة بإلغاء الاحزاب والعمل البرلماني والتشريعي ، وبإلغاء تلك المظاهر الديمقراطية تضرر المصريين عامةً ، والاقباط بشكلاً خاص الذي تمتع غالبيتهم بالحرية السياسية إبان العصر الملكي لإبناء محمد علي باشا ، وقد ساهم هذا الشيئ في تقوقع الاقباط مرة أخري داخل كنيستهم القبطية .

شاهد أيضاً

المغرب

الــملــصـق المسرحي لمن ؟

نــجـيـب طــلال مـفارقات: أشرنا ما مرة، بأن هنالك ظواهر تخترق جسد المشهد المسرحي في المغرب، …