الكاتب : مايكل عزيز البشموري
عصابات ” المافيا ” هي إحدي أشهر العصابات الإيطالية صيتاً علي مستوي أنحاء العالم ، وترجع قصة المافيا في جزيرة صقلية الإيطالية ، وتحديداً في سنة 1860، فإبان الاحتلال الفرنسي علي إيطاليا ، ظهرت حركة وطنية بتلك الجزيرة ، مناهضة للاحتلال الفرنسي ، وكان شعار تلك الحركة : Morte Alla Francia Italia Anelia ، أي : ( موت الفرنسيين هو صرخة إيطاليا ) ، وتم اختصار هذا الشعار بأخذ الأحرف الاولي من كل كلمة من تلك العبارة ، فجاءت منها كلمة : مافيا .
وكان أعضاء المافيا وطنيين متعصبين يهاجمون جنود الاحتلال الفرنسيين والمتعاونين معهم . ثم راحوا يفرضون الإتاوات علي التجار من أجل تمويل حركتهم الوطنية ، ومن يرفض يُقتل أو تدمر متاجره . وكان القضاة يتغاضون عن جرائمهم ، لان القاضي الذي يتجرأ ويحكم علي أحدهم يُقتل أو تُقتل عائلته ، وفي سنة 1880 طلب ملك إيطاليا من أعضاء المافيا بالرحيل خارج البلاد بعدما ضجت الناس من أعمالهم الشريرة ، وبالفعل رحلت العائلات الخمس الكبري الي أميركا ، وبدأت رحلة المافيا الإيطالية في البلاد الجديدة .
* المافيا الدينية :
إن توظيف الجهل والغرائز الدينية ، وحتي المشاعر الوطنية ، من أجل تحقيق أهدافاً بعينها ، ليس جديداً علينا ، ولعلّ أفضل مثال على ذلك ، قصة المافيا الإيطالية الذي تم سردها عالية .
وأعتقد إن ما يجري داخل مجتمعنا القبطي اليوم ، ولو شكلياً ، يشبه إلى حد كبير ما حدث في إيطاليا في سنة 1860 .
لقد أصبحنا اليوم أمام مافيا دينية قبطية ، يتزعم تلك المافيات مجموعة قبطية تضم ( نشطاء كنسيين ) ، متصلين بشبكة عنكبوتية واحدة ، وتلك المجموعات تمتلك وسائل الاعلام الخاصة بها ، ولديها صفحاتها الخاصة علي الفيس بوك ، ومتابعين بالآلاف ، وكل شخص من هؤلاء لديه اهتماماته الدينية الخاصة ، فمنهم من هو مهتم بالتاريخ الكنسي ، والعقيدة ، والإيمان ، والطقس ، والألحان ، وبالمؤسسة الكنسية بشكلاً عام .
وبالطبع إنه لامراً رائع الاستفادة روحياً من تلك الصفحات القبطية المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وغيره ، فجيد أن يكون للمرء منا اهتماماته الروحية ، ولكن الغير جيد والغير مستحب ، هو أن تتجه تلك الصفحات من الاتجاة الروحي الى الاتجاة التحريضي ، لتعمل على توجيه الاقباط لأخذ مواقف متطرفة من قضايا بعينها ، فإنحرف مدراء تلك الصفحات عن تقديم خدمتهم الروحية المتعارف عليها ( فهم ابتداؤ بالروح ، ولكنهم صاروا فيما بعد حسب الجسد ) ، فأعطى هؤلاء لأنفسهم الحق بأن يكونوا أوصياء على العقيدة والإيمان الارثوذكسي دون غيرهم ، والإفتاء فى أموراً دينية ليس لهم شأناً فيها، وبالتالي بات اولئك النشطاء الكنسيين ، يستخدمون التحريض والهجوم العلني على مَن يرونه مخالف لأفكارهم الدينية المتشددة ، ولم يسلم حتي من هذا الهجوم قادة الكنيسة القبطية أنفسهم ، وذلك تحت بند حماية الايمان الارثوذكسي !
لا تكن باراً فى َعيني نفسك
لقد أصبح لدينا نشطاء كنسيين يلعبون دوراً سلبي ومعوقاً فى العمل القبطي العام ، وأصبحوا يعرقلون مجهودات نظرائهم النشطاء الاقباط المدنيين ، العاملين بالشأن القبطي ، والساعين لحل قضايا قبطية تحمل طابعاً مدني وكنسي في آن واحد ، ولم يعط أولئك النشطاء الكنسيين قدراً من الليونة والمرونة لحل الإشكاليات التي تواجه مجتمعهم القبطي ، فلم يستخدموا لغة الحوار مع الاخر المعارض لهم ، واكتفوا فقط بالهجوم اللاذع علي خصومهم الفكريين ، وتكفيرهم علانية عبر صفحاتهم الفيسبوكية ، في محاولة جنونية منهم لفرض تعاليم متطرفة بعيدة كل البعد عن جوهر المسيحية .
مثال بسيط على ذلك : الهجوم الغير مبرر من جانب نشطاء الكنيسة هؤلاء ، على الكنائس والمعتقدات المسيحية الاخرى ، وتصاعد لهجة التكفير لديهم ، ووصفهم لبعض المسيحيين جزافاً بالمهرطقين ، بشكل لا يليق .
تلك الرؤى المتشددة وغيرها ، لا تصلح في زمننا هذا ، ويرفضها الكثير منا ، لان تلك التعاليم المنبوذة ومواد الكراهية التي ينشرها هؤلاء النشطاء ، تتشابه بشكل كبير مع الأفكار السلفية الاسلامية المتطرفة ، وهنا مكمن الخطورة .
فأي ناشط قبطي يرفض ويندد بتلك التعاليم الغريبة التى ينشرها اولئك النشطاء ، يتم الهجوم عليه والنيل من شخصه من قبلهم – هنا – بدأت تتولد الخصومات والنزاعات الشخصية بين المختلفين في الفكر والتوجهات بين أبناء الكنيسة الواحدة ، فأصبحنا نرى أشياء لم نكن نراها أو نسمع عنها من قبل داخل كنيستنا ، وهو تكفير الاقباط لبعضهم البعض ، واستخدامهم الحرمانات الكنسية عشوائياً ضد بعضهم البعض ، وكأننا فى عصور المجامع الكنسية ! ، الامر الذي سبب عثرات كبيرة لدى أبناء الشعب القبطي ، لاسيما أن المواد الدينية المتطرفة التى ينشرها اولئك النشطاء عبر صفحاتهم بالفيس بوك ، يشاهدها ويتابعها عشرات الالاف من الاقباط .
* نشطاء الكنيسة وعٌقدة مجمع ” خليقدونية “:
نحن نعتبر أقباط أسمياً ، ونعتبر أيضاً عرب أسمياً ، فلم يتبقي لنا أي هوية ، ولم نعد نستطيع الافتخار بقوميتنا القبطية صاحبة أعظم إمبراطوريات التاريخ القديم ، الامبراطورية الفرعونية ، فالاقباط هم الوريث الشرعي لتلك الحضارة الانسانية العظيمة ، الذي يزيد عمرها أكثر من أربعة الاف سنة حسب التقويم القبطي ، فلم يعد بإستطاعتنا الافتخار بقوميتنا ، لان أساس أي قومية هو الاعتزاز بلغة الشعب الوطنية .
ولغتنا القبطية ( الذي بفضلها تم معرفة اللغات المصرية القديمة على حجر رشيد ) ، قد انقرضت اليوم ، واندثرت بسبب براثن الماضي البعيد ، والالآم الاضطهادات المريرة الذي تعرض لها الشعب المصري المسيحي طوال فترة حكم العرب البدويين لهم ، وذلك بمنتصف القرن السادس الميلادي وإلى الآن ، فعندما لم يستطع أبناء الفراعنة الاقباط ، التصدي للغزو البدوي الهكسوسي إبان ثورة البشموريين في القرن الثامن الميلادي ، حينها ضاعت الحضارة ، وضاعت الارض ، وضاعت اللغة ، وأصبح السيد عبداً ذليلاً فى أرضه ، والعبد سيداً عظيماً ، فأي عاراً هذا لحق بتلك الأمة ؟ وأي مأساة تلك تعرض لها هذا الشعب المنكوب ؟
فالشيء الاخير والوحيد المتبقي لهذا الشعب المنكوب بعد سنوات الضياع تلك ، هو ( الايمان الارثوذكسي ) الذي توارثه الاقباط عن أجدادهم وأبائهم جيلاً بعد جيل ، وهذا ما يفسر لنا ويوضح الأسباب الحقيقية وراء تشدد نشطاء الكنيسة هؤلاء ، وبالطبع نحن نتفهم نواياهم الحسنة تلك ، ونحترم مشاعرهم النبيلة حيال هذا الامر ، ولكن مثلما ذكرنا بأن رجال ( المافيا ) الوطنيين كانت نوياهم أيضاً حسنة ونبيلة ، وانتهي بهم الحال الي أشخاص قتلة ومجرمين !
نرجع لحديثنا حول الايمان الارثوذكسي ، الذي بسببه تنازل المصريين على أعز ما يمتلكونه ، فكان الثمن فادحاً للغاية بالنسبة لوطنهم ، فأبناء أثناسيوس كما يحب أن يصف نشطاء الكنيسة انفسهم به ، ما زالت عٌقدة مجمع خليقدونية وتداعياته التاريخية تراود مخيلتهم ، وتداعب مشاعرهم وأحاسيسهم الروحية والايمانية بل والوطنية أيضاً ، فتحولت الكنيسة بالنسبة لهؤلاء إلى وطناً يعيشون فيه ووطناً يعيش فيهم .
وتلك العُقدة الخليقدونية مازالت تتحكم في تصرفاتهم وطريقة تفكيرهم نحو الاخرين ، وهذا ما يجعل أولئك النشطاء أسرىَ لدى الفكر الديني العتيق ، فيفسر الاستاذ نصر حامد أبو زيد ، تعريف الفكر الديني بأنه : ” الفكر الذى يجعل للماضي والتاريخ أولية وجودية ومعرفية بحيث يُصبح الجوهر الثابت ، وتتحول علاقة الحاضر به إلى علاقة تبعية وخضوع ” .
إذن نحن هنا أمام إشكالية حقيقية ، متمثلة بين نشطاء الكنيسة ، ونشطاء الاقباط العاملين في الشأن القبطي العام ، فهناك حالة من الصدام الفكري بين الطرفين يحدث بين الحين والآخر ، والسبب في ذلك يرجع ، بأن نشطاء الكنيسة مازالوا تحت تأثير الفكر الديني المنغلق على ذاته ، فيرى أصحاب هذا الفريق أن الكنيسة وعقيدتهم الارثوذكسية لابد أن تكون فى المرتبة الاولي من أولوياتهم ، ثم يليه الوطن فى المرتبة الثانية . ( وهذا ليس إدعاءاً ولكنه حقيقة وهناك إثباتات كثيرة تثبت صحة ذلك ) .
أما بالنسبة للنشطاء الاقباط الغير مختصين بالشأن الكنسي ، فهم يتطلعون نحو تدعيم أواصر الدولة المدنية الحديثة ، وبذات الوقت هم يحترمون ويعتزون بالدور الروحي لكنيستهم القبطية العريقة .
ويحدث الصدام والمواجهة الفكرية مبكراً بين الطرفين ، عندما تتداول إحدي القضايا الخلافية المطروحة على الساحة القبطية ، فعلى سبيل المثال وليس الحصر : ملف الاحوال الشخصية المتعلق بالأقباط ، ينظر إليه نشطاء الكنيسة بنظرة دينية بحتة ، فدائما نراهم رافعين شعار : لا طلاق الا لعلة الزنا ، دون النظر لمعاناة متضرري هذا الملف ، أما بالنسبة للنشطاء الاقباط فينظرون لهذا الملف بشكل حقوقي ومدنى وإنساني أكثر من كونه ديني بحت ، ولعدم إحراج الكنيسة وتلاشياً لمواجهة نشطاء الكنيسة هؤلاء ، طالب العديد من النشطاء الاقباط ، ٓسن قانون مدني يسمح بالزواج المدني للاقباط خارج الإطار الكنسي ، الامر الذي قابلة نشطاء الكنيسة بالرفض القاطع ، والهجوم على دعاة الزواج المدني ، وهذا يوضح لنا بأننا أمام جماعة دينية لا تؤمن على الإطلاق بمفهوم الدولة المدنية والعلمانية ، وبالتالي أي مجهود يبذل في هذا الشأن سيضيع هباءاً ، نظراً لما يشكله اولئك النشطاء الكنسيين من لوبي أرثوذكسي متطرف يضغطون من خلاله على القيادات الكنسية التى تسعى جاهدة لحل تلك الإشكالية بشكلاً حضاري ، فهؤلاء النشطاء متمسكين حرفياً بقوانين الكنيسة القديمة التي تحتاج إلى تغيير وتطوير ، وبالنسبة للاقباط ( العلمانيين ) يسعون على الجانب الآخر لتطوير المنظومة القبطية الارثوذكسية ، بشكل يتواكب مع معطيات العصر الحديث ، وبشكل يحافظ أيضاً علي الايمان الارثوذكسي المسلم به من قبل الآباء الأولين .
للحديث بقية