الثلاثاء , أبريل 23 2024

حرب الغاز والنفط الكونية .

بقلم : دكتور وسيم ضاهر
باحث في الاقتصاد السياسي والاستراتيجي
استطاعت الولايات المتحدة الاميركية بشركاتها الكبرى ومؤسساتها المالية عبر عقود من الزمن ان تجمع بين الدولار، النفط، واحتياطات المصارف المركزية العالمية في علاقة اساسية وعضوية. اذ اصبحت قوة الدولار تستمد من حركة تجارة النفط اساسا ومن تكوين احتياطات المصارف العالمية من خلال خلق طلب وهمي على الدولار غير متعلق بالقوة الفعلية للاقتصاد الاميركي. وأصبح تعريض مصادر الطلب على الدولار لأي اختلال يشكل خطرا مباشرا عليه وعلى وجود الولايات المتحدة ككيان. فمنذ فك الرئيس نكسون في 1971 ارتباط قيمة الدولار بموجودات الذهب في الاحتياطي الفدرالي وربطه بقوة الاقتصاد الاميركي وقوة الطلب عليه، أصبح الدولار عملة عائمة تزداد قوتها مع ازدياد الطلب عليها. والجدير ذكره هنا ان فك الارتباط بالذهب يمكن طابعي الدولار من طبع الكميات التي يريدون، مع بعض الضوابط، من دون عناء تأمين الدعم المادي لها. وقد قامت الولايات المتحدة في عهد الرئيس وودرو ويلسون بتلزيم طبع الدولار الى الاحتياطي الفدرالي المملوك للقطاع الخاص، وخاصة العائلات المالية اليهودية.
امام حرية طبع الدولار الذي رمى بثقل التضخم المالي على العالم وخاصة البلدان الفقيرة، وامام سياسات الولايات المتحدة المالية الخاطئة وحروبها الخاسرة، كان لا بد للصين، المستثمر الخارجي الاكبر في الدين الاميركي، ان تبدأ بالبحث عن حلول اخرى ازاء التدني المستمر لقيمة دينها. الا ان حاجة الصين للنفط، وتسعير النفط بالدولار حصرا، بعد الاتفاق السعودي الاميركي عام 1973، وضعها دائما تحت رحمة اميركا.
ورأت الصين، ومعها روسيا، في الغاز الروسي بديلا عن النفط وملاذا آمنا خارج السيطرة الاقتصادية الاميركية. بقي ثمن الغاز الذي رفضت موسكو ان يكون بالدولار حصرا وهنا بدأت المشكلة مع اميركا. خروج الغاز عن طاعة اميركا وبيعه بعملة غير الدولار يعني، اولا، انخفاض الطلب على الدولار ونقل الضغط الى الاقتصاد الاميركي؛ ثانيا، انخفاض عائدات سعر صرف الدولار؛ ثالثا، التخلي عن عبور المعاملات المالية عبر نيويورك وبالتالي خسارة اميركية كبيرة في السيطرة على حركة عبور المال. رابعا، خلق عملة رديفة للدولار كعملة احتياط اساس، وهنا ايضا انخفاض آخر للطلب على الدولار؛ خامسا، دخول قوى جديدة الى المسرح الدولي خارجة عن السيطرة الاميركية وبعائدات ضخمة من بيع الغاز خصوصا روسيا وإيران؛ سادسا، تحرير الصين من الزامية استثمارها في الدين الاميركي.
ولانخفاض الطلب على الدولار تأثير كبير ومباشر على الاقتصاد الاميركي. وقد نجحت الصين حتى الآن من شراء كميات ضخمة من الذهب لدعم اليوان الصيني كعملة رديفة للدولار، وقد ترجم هذا النجاح مؤخرا باعتماد اليوان من قبل صندوق النقد الدولي كعملة احتياط بالإضافة الى العملات الاساسية الاربعة الاخرى.
لذلك سعت اميركا لكسر الاحتكار الروسي في سوق الغاز من خلال ايجاد بدائل لتزويد اوروبا، المستورد الاكبر للغاز. وبذلك تستطيع اميركا ان تتحكم بسعر الغاز وفرض الدولار كعملة لشرائه تحت تهديد خفض سعره ما دون سعر الانتاج، وبالتالي فرض ضغوط هائلة على روسيا وإيران وترويض الصين. فكان الاختيار الاميركي الاول هو الغاز القطري عبر سوريا التي رفضت فدمرت ولكن بقيت النتيجة لصالح الروسي والصيني. اما الخيار الثاني، فلغاز شرق المتوسط عبر انابيب بحرية الى تركيا او اليونان، وتم افشاله عبر الاساطيل الروسية في المتوسط. ويبقى الخيار الثالث، اي غاز ليبيا والجزائر عبر انابيب بحرية الى ايطاليا. وهذا يفسر قتال داعش، اي اميركا وحلفائها، للسيطرة على ليبيا ولاحقا على شمال افريقيا دون مقاومة اوروبية تذكر.
وعلى المقلب الآخر ابقت روسيا على نشاطها في مد انابيب غاز رديفة لخط الشمال الى اوروبا خصوصا مع تزايد الطلب الاوروبي للغاز. وفي هذا السياق، استغلت روسيا المشاكل في اوكرانيا لتعيد ضم شبه جزيرة القرم، وبالتالي اعفاء نفسها من موافقة اوكرانية على خط الجنوب المار في مياه البحر الاسود قرب القرم. وكانت بلغاريا في وقت سابق، وبالرغم من موافقتها السابقة وبدء العمل على المشروع، قد رفضت مرور خط الجنوب في اراضيها تحت ضغط بروكسل وواشنطن. في مقابل ذلك، اتفقت موسكو مع انقرة على خط سيل تركيا المار عبر تركيا الى اوروبا، والذي توقف مؤخرا جراء التصعيد الروسي-التركي عقب اسقاط الطائرة الروسية في سورية. وفي تطور كان قد سبق عملية داعش الاخيرة في باريس، اعلنت فرنسا اهتمامها بخط الجنوب الروسي فأعيدت الحياة اليه مجددا.
وبذلك يكون حلف الصين، تركيا، وإيران قد استطاع نسج علاقات استراتيجية مع العديد من الدول من ضمنها حلفاء لواشنطن. والجدير ذكره ان قوة هذه العلاقات تضعف اميركا على عدة مستويات وتخرج العديد من الدول من تحت سيطرتها. كما تضع ضغوط جمة على اقتصادها وعلى الدول المرتبطة عضويا بأميركا وبدولارها، كالسعودية تحديدا. وفي خضم هذا الصراع، من المتوقع انتفاء الادوار التي خلقت من اجلها بعض الانظمة في المنطقة مما ينذر بسقوطها. ومع سقوط هذه الانظمة، من المتوقع ان يعاد تشكيل دولها بما يتماشى مع الدور الجديد المنوط بها او الدور المفترض ان تلعبه.
الى ان ينتهي صراع النفط والغاز، يبدو ان النار ستبقى مشتعلة في بعض المناطق والدول في انتظار تحديد دورها او ان تحدده هي في ضوء نتيجة الصراع

شاهد أيضاً

الحرحور والجحش وحمار الحكيم…

الذكريات كتاب مفتوح ووقائع مازالت تحيا فى القلوب وبقاياها يعشش فى العقول ، وعندما نسافر …

تعليق واحد

  1. تحليل جيد وعلى مستوى عالٍ من الإحترافية في التعبير بلغة راقية:
    إلا أنني أجد من المجدي تركيز النخبة ومثل كاتب البحث هذا، على ما يعالج هذا الصراع الذي تدفع ثمنه غالبية شعوب العالم تحت الإفتراض أن لا غالبية في العالم تقبل بأن تستفيد من إقدام السياسيين على التسبب بالمآسي لشعب آخر من أجل تنافس على النفط.
    تمنياتي على النخبة أمثال كاتب البحث الدكتور وسيم ضاهر، وخصوصاً في لبنان والبلد يشهد تعطيل للإنتخابات بكافة محطاتها, أن يتناقشوا عن التركيز على أساليب تطوير الإنتخاب بالإضافة لبحث الوانين الإنتخابية المقترحة من المجتمع المدني ومنها اقتراح سمارت التالي: http://www.smartcenter.me/New_Election_Law-Arabic.html
    كما أن لدينا اقتراح حول اسلوب خاص لتعامل الغالبية مع الإنتخابات و ذلك لفرض المرشحين من قبلها على الرابط:https://www.facebook.com/groups/www.smartcenter.me/
    كما نلفت الإنتباه لآخر ورشة عمل لمركز سمارت سنتر مع نقابة محامي طرابلس على الرابط: http://nna-leb.gov.lb/ar/show-news/202424/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.