واصف ماجد
داخل دير القديس سمعان الخراز، المنحوت في صخور جبل المقطم، اندلعت مؤخرًا أزمة مركّبة تجمع بين الجدل العقيدي والتوتر الإداري، لتكشف عن صراع يتجاوز تفاصيله المباشرة نحو تساؤلات أعمق حول العلاقة بين الكهنة والأسقف، وحدود التجديد داخل التقاليد الأرثوذكسية الصارمة.
البداية: عرض مسرحي يثير الجدل
المشهد الأول كان عرضًا مسرحيًا نظمته مجموعة من السيدات داخل الكنيسة.
جسّدت إحداهن شخصية السيد المسيح الجالس على العرش، بينما مثّلت أخريات الأربعة والعشرين قسيسًا في مشهد مستوحى من سفر الرؤيا.
رغم أن المسرحية لم تكن عامة، فإن تسجيلات منها خرجت إلى العلن، لتبدأ معها موجة انتقادات واسعة، ركّزت على تجسيد شخصية المسيح من قِبل امرأة، وهو ما اعتُبر خرقًا صريحًا للثوابت الأرثوذكسية، حتى في سياقات فنية أو رمزية.
رد الكاهن… وتأجيج الأزمة
وفيما التزم مسؤولو الكنيسة الصمت، صرح القمص بطرس رشدي، أحد كهنة الكنيسة، بتعليقٍ على صفحته الرسمية قال فيه بالنص:
“اللي بيقولوا ويعلقون على الاسكتش ويشوهوا صورة الكنيسة والخدمة دول ناس مريضة هما والي وراهم ولا تعبر مثل هؤلاء دع القافلة تسير وال…….. مساكين ربنا يتوبهم ويتعامل معاهم ويفتح عينيهم انا شخصيا اول مرة اعلق على حاجة زي دي لأنهم لايفرقوا شئ ربنا يبارك حضرتك والخدمة والاسكتشات مستمرة وهتزيد أضعاف طالما ده يوجعهم يمكن يتوبوا”.
فبدلًا من احتواء الجدل، ، كانت تلك التصريحات الحادة على صفحته بموقع فيسبوك، التي وصف فيها المعترضين بأنهم “مرضى روحيون”، مضيفًا أن الأنشطة التي تزعجهم “سوف تستمر وتتضاعف”
مما أدى إلى تصاعد السخط بين قطاع واسع من أبناء الكنيسة وخدّامها، الذين رأوا في اللغة
خروجًا عن روح الكهنوت وتهكمًا على صوت الالتزام العقيدي.

طلب تبعية مباشرة… والانفجار الإداري
الجدير بالذكر أن التوتر كان متسارعًا في المنطقة قبل تلك الواقعة مباشرة؛ ففي مشهد آخر، تقدّم القمص بطرس رشدي، والقمص إبرام فهمي سليمان، والقمص بولا شوقي توفيق، والقس فام لطيف، من كهنة الكنيسة
بخطاب رسمي إلى البابا تواضروس الثاني، طالبين فيه إلحاق الكنيسة بالبطريركية مباشرة
دون وساطة أو إشراف من الأسقف العام الأنبا أبانوب.

هذا التحرك نادر في نظام الكنيسة الأرثوذكسية الذي يقوم على التراتبية، ويُعدّ إعلانًا صريحًا بعدم الرغبة في الخضوع لإدارة الأسقف الحالي، رغم أن تعيينه ذاته جاء بقرار بابوي.
وقد أثار هذا الطلب تساؤلات حول السند القانوني والإداري له، خاصة أن الكنيسة في الأصل تتبع البابا
من حيث الجهة الكنسية، وتخضع لرعاية أسقف عام بقرار بابوي واضح.
مصدر كنسي مسؤول صرّح لنا:
“الكنيسة تابعة لقداسة البابا فعليًا، لكنها تحت إشراف الأنبا أبانوب إداريًا ورعويًا. طلب الكهنة قد يكون محاولة للضغط لإنهاء الإشراف، لكن البابا هو من اختار الأسقف”.
اللافت أن قداسة البابا خطّ على مطلب الكهنة ووقّع على الخطاب بتأشيرة حمراء واضحة بتاريخ 19 يونيو 2025، وهي إشارة غير معتادة في مثل هذه الحالات، أضفت شرعية على مطلب الكهنة، وفتحت الباب أمام تكهّنات حول مدى توافق الخطوة مع اللائحة الكنسية، وما إذا كانت تُعدّ سابقة يمكن تكرارها في كنائس أخرى.
المؤيدون لتحرّك الكهنة يرون أن الكنيسة بحاجة إلى مناخ حر يسمح بالإبداع والتطوير
ويعتبرون الأنبا أبانوب “حاجزًا إداريًا” يعطّل حركة الخدمة.
أحد خدام الكنيسة – فضّل عدم نشر اسمه – قال:
“الخدمة كبرت قوي، والمكان مش كنيسة عادية، دي مزار عالمي، والكهنة تعبوا جدًا، يستاهلوا يتعاملوا مباشر مع قداسة البابا”.
صمت رسمي… وأصوات شعبية متباينة
ورغم تأكيد مصادر كنسية أن الأنبا أبانوب لم يُدلِ بأي تعليق رسمي حتى الآن، رغم محاولتنا الوصول لنيافته لكننا لم نستطع الوصول له حتى لحظة كتابتنا هذه، إلا إنه تشير دوائر مقرّبة منه عن شعوره بالأسى مما جرى،
ويتمسك بموقفه الرافض لتجاوز الثوابت الأرثوذكسية، سواء عبر عروض غير ملائمة أو عبر ضغوط إدارية
تمسّ صلاحياته كأسقف مسؤول.
من جانب آخر، برزت أصوات داعمة للأسقف من داخل منطقة منشية ناصر، مثل المعلم شحاتة المقدس، أحد الشخصيات القبطية البارزة بالمنطقة، الذي قال:
“الأنبا أبانوب واقف ضد التجاوزات، والشعب مش ضد البابا، لكن ضد التفاف الكهنة حوالين الإشراف علشان يعملوا اللي هم عايزينه بدون محاسبة”.
في المقابل، دافع بعض المثقفين الأقباط عن موقف البابا، معتبرين أن البطريرك هو السلطة العليا التي من حقها التدخّل في أي ملف رعوي، ولا سيما أن قطاع المقطم ودير القديس سمعان الخراز جزء من إيبارشية قداسة البابا،
ونيافة الأنبا أبانوب هو أسقف عام موفد من قِبل البابا للإشراف الرعوي، مؤكدين أن ولاء الكنيسة النهائي
يجب أن يظل للكرسي البابوي، لا لأي شخصية اعتبارية أخرى.
صراع أعمق من الظاهر؟
التحقيق في هذه القضية لا يقف عند حدود مسرحية أو خطاب كهنة، بل يفتح ملفًا حساسًا حول التوازن
بين السلطة المركزية لقداسة البابا والسلطة الأسقفية للأسقف العام ، ومدى وضوح خطوط الفصل
بين حرية التعبير في الأنشطة الكنسية، واحترام العقيدة الأرثوذكسية.
فهل كان ما جرى تمردًا على التعليم، أم على شخص الأسقف؟ وهل تدخّل البابا يُعدّ دعمًا للانقسام
أم محاولة لحماية الخدمة من التفتّت؟
في جبل حمل معجزة نقل الصخور يومًا، بات السؤال اليوم: هل ما زال الجبل ثابتًا، أم بدأت التصدعات تظهر في قلب الكنيسة نفسها؟
جريدة الأهرام الجديد الكندية
