الجمعة , ديسمبر 5 2025
الكنيسة القبطية
القس فيلوباتير ميشيل

أزمة القس فيلوباتير ميشيل بين الكتاب المقدس وتقاليع العصر

كتبه: واصف ماجد

أثارت واقعة احتفال القس فيلوباتير ميشيل، كاهن كاتدرائية السيدة العذراء مريم بالمعلمين الجديدة في أسيوط، بكعكة على شكل الكتاب المقدس كُتب عليها “الكتاب المقدس”، وتم قطعها وتناولها في جو احتفالي، حالة من الجدل الواسع داخل الأوساط الكنسية والشعبية، باعتبارها تصرفًا غير لائق بمكانة الكلمة المقدسة في الإيمان الأرثوذكسي

الكتاب المقدس في اللاهوت والطقس الأرثوذكسي

في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، يُعد الكتاب المقدس الركيزة الأولى للإيمان والعبادة والتعليم. فهو ليس مجرد نصوص روحية، بل هو حضور إلهي حي يتعامل معه المؤمنون في صلواتهم وطقوسهم باعتباره كلمة الله المنطوقة والمكتوبة.
تستمد الكنيسة منه كل تعليمها، وتستند إليه في ليتورجيتها، وتضعه في قلب العبادة اليومية، باعتباره المرجع الأعلى للحق الإلهي.

يُحمل الإنجيل في القداس الإلهي بوقار أمام المذبح، وسط الشموع والبخور، ويُقبل من الكاهن والشعب على السواء بصفته رمزًا لحضور المسيح الكلمة. ويُحظر استخدامه أو تشبيهه في غير المواضع الطقسية أو التعليمية، احترامًا لهيبته.
وقد علّم الآباء منذ القرون الأولى أن الكتاب المقدس “هو فم الله المفتوح للإنسان”، كما قال القديس أثناسيوس الرسولي، وأن كل كلمة فيه هي حياة تُنير القلب والعقل معًا.

لهذا ظل التعامل مع الكتاب المقدس في الكنيسة القبطية طقسًا من التقديس والخشوع، وليس من الزينة أو الاحتفال المظهري. فكل ما يُقدّم له من توقير هو تعبير عن إدراك الكنيسة بأن هذا الكتاب ليس شيئًا من العالم، بل هو حضور روحي يتجاوز الشكل والمادة.

تحليل الواقعة ومخالفتها للتقليد الكنسي

من هذا المنطلق، فإن ما حدث في كاتدرائية السيدة العذراء بالمعلمين يمثل – في جوهره – خلطًا مؤسفًا بين الفرح الدنيوي والمقدس الكنسي.
فالاحتفال بكعكة على شكل الكتاب المقدس، ثم قطعها وتناولها، حتى وإن تم بنوايا حسنة، لا يتسق

مع ما تعلّمه الكنيسة عن مهابة الكلمة الإلهية. لأن تحويلها إلى مجسمٍ حلوى يحمل في ذاته رمزية

خاطئة تُفرّغ الكتاب من قدسيته وتُدخله في إطارٍ اجتماعي لا يليق بقداسته.

الكتاب المقدس في وجدان الكنيسة يُفتح لا ليُقطع، ويُتلى لا ليُؤكل، ويُزيَّن بالحق لا بالسكر.
حين يُجسّد في شكل كعكة تُعرض على المائدة، يفقد جوهره ككلمة خلاص، ويتحوّل إلى زينة بصرية.

وهذا ما يخالف الخط الروحي الذي رسمه الآباء والطقوس، والذي حافظ على التمييز الصارم

بين ما هو مقدس وما هو عادي.

لا أحد يشكك في نوايا المحبة أو الرغبة في الفرح، لكن الإشكال هنا هو غياب الحس الكنسي الرعوي

الذي يميّز بين الرموز. فالفرح المشروع لا يبرر استخدام الرموز المقدسة بطرق دنيوية

لأن الخط الفاصل بين التكريم والإساءة قد يصبح رفيعًا جدًا حين تُغيب عنه الرؤية اللاهوتية.

رسالة إصلاح لا هجوم

النقد هنا ليس موجهًا إلى شخص القس فيلوباتير ميشيل، بل إلى ثقافة رعوية تحتاج إلى مراجعة.
ففي عصر أصبحت فيه وسائل التواصل جزءًا من الوعي العام، باتت الصور والاحتفالات تُشكّل وجدان الناس

أكثر من التعليم.

لذا، يصبح من الضروري أن يكون الكاهن أكثر وعيًا بموقعه كصورة حية للكلمة، لا كصاحب مبادرة اجتماعية.
الكهنوت في المفهوم الأرثوذكسي هو تكريس وهيبة ومسؤولية أمام المذبح، لا مساحة للظهور أو الاجتهاد الشخصي في الرموز الإيمانية.

دعوة للمراجعة الكنسية

من هذا المنطلق، تأتي الدعوة إلى تدخل رعوي وتوجيهي من نيافة الأنبا يؤانس، أسقف أسيوط

وسكرتير المجمع المقدس، المعروف بحكمته واتزانه وتعليمه الآبائي الرصين، لاحتواء مثل هذه المظاهر

من خلال توعية كهنته وشعبه بما يليق بالتعامل مع الرموز المقدسة.
فالمسألة لا تحتاج إلى تصعيد، بل إلى تصحيحٍ هادئ يعيد الأمور إلى نصابها، ويغرس في الوعي العام

أن قدسية الكتاب المقدس لا تُكرّم بالمظاهر، بل بالعيش في كلمته وحفظ وصاياه.

إن ما جرى في أسيوط ليس حادثًا عرضيًا بقدر ما هو جرس إنذار رعوي يدعو الكنيسة كلها

إلى مراجعة المفاهيم الحديثة التي تسللت إلى الخدمة، حتى لا تضيع الحدود بين روح الإنجيل وتقاليع العصر.

لا ينبغي أن يتحول إلى زينة على مائدة احتفال.

وإذ نحب كنيستنا، نؤمن أن تصحيح المسار يبدأ دائمًا من الداخل، حين نعود جميعًا إلى سلطان الكلمة، كما سلّمها الآباء لنا، بقداستها وبهائها وهيبتها.

شاهد أيضاً

خبراء مصريون يعلقون بشأن اتهام الخارجية الإثيوبية لمصر برفض التفاوض

بعد اتهام وجهته وزارة الخارجية الأثيوبية لمصر أنها ترفض التفاوض و الحوار وتقود حملة تخريب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.